Saturday, February 13, 2021

موجات مقبلة من الهجرة: لبنان في خطر وجوديّ

 

موجات مقبلة من الهجرة: لبنان في خطر وجوديّ


لم يكن مفاجئاً ما قاله وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان في 27 آب 2020 بعد كارثة بيروت الكبرى: «إن لبنان يواجه خطر زوال الدولة بسبب تقاعس النخبة السياسية التي يتعيّن عليها تشكيل حكومة جديدة سريعاً لتنفيذ إصلاحات ضرورية للبلاد». وأضاف: «البلد على حافة الهاوية. نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر. هناك شباب قلق وبطالة واسعة، كما أن التضخّم مروّع ومذهل… نحن لن نوقع شيكاً على بياض لحكومة لا تنفذ الإصلاحات التي بات يعرفها الجميع».


إنه موسم الهجرة
تُعدّ كارثة بيروت واحداً من أكبر الانفجارات في تاريخ البشرية. فقد أسقط انفجار في مرفأ بيروت نحو 200 شهيد و6000 جريح، بالإضافة إلى أضرار مادية بالغة أصابت ما بين 50 ألفاً إلى 60 ألف مسكن ومكتب ومؤسّسة تجارية، وتشريد أكثر من 300 ألف مواطن تضرّرت منازلهم، ما أدّى إلى إعلان بيروت مدينة منكوبة وإعلان حالة الطوارئ لمدة أسبوعين بدءاً من مساء الثلاثاء 4 آب 2020.
جاءت هذه الكارثة فوق أزمات اقتصادية واجتماعية، وانتشار وباء كورونا في معظم المناطق، ما أدّى إلى ارتفاع أعداد المغادرين عبر المطار خلافاً للفترة التي سبقت انفجار 4 آب. فالأرقام التي نشرتها «الشركة الدولية للمعلومات» تشير إلى أن عدد اللبنانيين الذين سافروا في عام 2019 ولم يعودوا وصل إلى 61,924 لبنانياً مقارنة مع 41,766 لبنانياً خلال الفترة ذاتها من عام 2018، أي بزيادة 20,158 مواطناً وما نسبته 42%. إلا أنه مع بداية 2020 وحتى نهاية شهر آب، تزايدت حركة المغادرين ولا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت، فانخفض متوسط عدد القادمين بنسبة 12,3%، بينما ارتفع متوسط عدد المغادرين بنسبة 36%. ولوحظ تسارع وتيرة هجرة الشباب الذين سارعوا إلى تقديم طلبات الهجرة واللجوء إلى كندا وفرنسا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا، مروراً بتركيا وقبرص واليونان، علماً بأن موجة الهجرة الأخيرة، شملت لبنانيين يملكون جنسيات أخرى خرجوا من لبنان رغم تفشّي فيروس كورونا، فانتظروا فتح أبواب بعض الدول أمام اللبنانيين.
التوقعات تشير إلى أن لبنان سيكون أمام موجات جديدة من الهجرة نتيجة تسارع وتيرة الانهيار المالي، وفي ظل غياب الاستقرار السياسي والقلق الأمني.

مؤشرات الموجات المقبلة
ثمة الكثير من المؤشرات عن حصول موجات كثيفة من الهجرة خلال الأسابيع المقبلة. قبل وقوع كارثة المرفأ، كشف الصحافي الفرنسي كريستيان شين، وهو يعمل لمصلحة إذاعة فرنسا الدولية، «أن السفارة الفرنسية في بيروت لم تشهد في تاريخها كمّاً من طلبات الفيزا كالذي تشهده اليوم للبنانيين راغبين في مغادرة بلدهم». وكانت الخارجية الفرنسية أعلنت أنّ «فرنسا قرّرت استثنائياً، إصدار التأشيرات للمواطنين اللبنانيين المقيمين في لبنان، من دون أي قيود». تُعدّ فرنسا الدولة الاكثر اهتماماً بلبنان، بسبب طبيعة العلاقات التاريخية معها.
أما في كندا، فقد صدر أيضاً موقف مماثل عن وزير الهجرة واللاجئين، حول تشكيل فريق خاص لتقديم الخدمات القنصلية، والبتّ السريع في كل طلبات الهجرة، لتمكين «اللبنانيين الموجودين مؤقتاً في كندا (زيارات أو تأشيرات سياحية) من تمديد إقاماتهم فيها في حال كانوا عاجزين عن العودة إلى بلادهم بفعل التفجير».

43.764

هو عدد المسافرين من لبنان بشكل نهائي خلال فترة لا تتعدّى الاثني عشر يوماً بعد انفجار مرفأ بيروت بحسب إحصاءات «الدولية للمعلومات»


أما محلياً، فقد أكّد متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، في عظة يوم الأحد 30 آب 2020، أنّ «شَبَح الهجرة عاد يخيّم في ربوعنا لأنّ شابات هذا البلد وشبابه لم يعودوا يَـرَوْن في لبنان وطناً... والإحصاءاتُ التي تتحدثُ عن هجرة العائلات مخيفةٌ، لكنّ المسؤولين لا يأبهون، لأنّ مشاغلهم ومراكزهم ومصالحهم أهمُّ من حياةِ الناس ومستقـبلِهم».
تُضاف إلى كل ذلك، حالات التهريب و«الهجرة السريّة» الأخيرة عبر «قوارب الموت»، ولا سيّما على ساحل مدينة طرابلس وشمال لبنان، للهروب بحراً في اتجاه قبرص وتركيا واليونان. فقد زاد انفجار مرفأ بيروت من يأس وإحباط الشباب اللبناني المطالب بالتغيير، وخصوصاً بعد الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في 17 تشرين الأول 2019.
كذلك تفيد تقارير من مصادر رسمية متنوّعة ومراجع روحية، عن وجود حجوزات بالآلاف لمغادرة لبنان جلّهم من الشباب، وعائلات بكاملها وخصوصاً من المسيحيين من بينهم العائلات المتضررة من انفجار المرفأ التي تسعى لبيع ممتلكاتها ومغادرة لبنان بسبب الدمار الواسع في مناطق بيروت الأولى (المرفأ، مار مخايل، الصيفي، المدوّر، الرميل والأشرفية)، ونظراً إلى ضعف المساعدات المخصّصة لترميم الأبنية التي تهدّمت.
هذا النمط محفّز بحالة الإحباط والخوف من التدهور الأمني وتداعيات الصراعات السياسية الحادّة، ومحاصرة لبنان وتوقف المساعدات الخارجية، وبانتشار البطالة والأزمة المعيشية الناتجة من الارتفاع الكبير لسعر الدولار واحتجاز أموال المودعين في المصارف.
علماً بأن هناك جهوداً لدعم المدارس الكاثوليكية والبعثات والإرساليات الأجنبية التي تواجه أزمات اقتصادية ومالية حادّة.
أخيراً، أعدّت مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تقريراً بعنوان «تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في بيروت»، يقدّر قيمة الأضرار والخسائر بنحو 8.1 مليار دولار كحدّ أقصى، ما يتطلب إعطاء الأولوية لإعادة بناء أَهراءات الحبوب في المرفأ، وإعادة تأهيل مستودع الأدوية المركزي، وضمان إمداد الفئات الأكثر عرضة للمخاطر بالأدوية الأساسية واللقاحات.



أنقر على الرسم البياني لتكبيره


دوافع ثابتة بوتيرة متسارعة
يتبيّن من مقارنة أعداد الوافدين والمغادرين في أعوام 2011 – 2013، أن صافي هذه الحركة أسفر عن خروج نهائي لنحو 174,704 أشخاص بمعدل سنوي يبلغ 58,234 شخصاً. في فترة أعوام 1995 - 2010، كان المتوسط السنوي لحركة السفر الصافية 14,560 شخصاً، ما يعني أن نسبة الزيادة بين الفترتين كانت مرتفعة جداً وبلغت 300%. كمحصّلة إجمالية لحركة سفر اللبنانيين، بلغ عدد الذين غادروا لبنان كمتوسط سنوي في فترة 2011-2013 نحو 50,807 مواطنين.
أسباب الهجرة واضحة المعالم، إذ تبلغ نسبة المهاجرين بحثاً عن عمل نحو 53%، بينما يهاجر %28 بسبب الأوضاع الأمنية وخصوصاً من الشباب. وتشمل موجات الهجرة مختلف الطوائف وبخاصة من المسيحيين إذ يهاجر %37 منهم لأسباب أمنية.
وتشير أرقام لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الأسكوا»، إلى تضاعف نسبة الفقر في لبنان. فقد ارتفع خط الفقر الوطني من 28% عام 2019 إلى %55 حتى أيار 2020. كذلك، ازدادت نسبة الفقر المدقع من 8% إلى 23%، علماً بأن هذه النسبة ستتزايد بعد انفجار مرفأ بيروت ويتوقع أن تصل إلى 70%.
ويتبيّن بحسب تقديرات البنك الدولي حتى منتصف عام 2020، أن نسبة الفقر في لبنان قد بلغت 52%. ومع تزايد معدل الشباب اللبناني العاطل عن العمل، يدخل إلى سوق العمل اللبنانية نحو 30 ألف فرد سنوياً. استيعابهم يتطلب خلق أكثر من 6 أضعاف عدد الوظائف الموجودة أساساً، علماً بأن متوسط صافي فرص العمل المتاحة يبلغ نحو 3500 وظيفة فقط. وللمقارنة، كان معدل البطالة 11% قبل الأزمة السوريّة، لكنه ارتفع إلى 36% في مطلع عام 2019 أي أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 660 ألف شخص بنسب متفاوتة بين المناطق.
لكن الأزمة تفاقمت اليوم والأرقام إلى ارتفاع. ففي دراسة جديدة لتقييم أثر جائحة كورونا صادرة عن الإسكوا في 30 آب 2020 بعنوان: «هل من خطر على الأمن الغذائي في لبنان؟»، يتبيّن أن الواقع خطير لأن نصف سكان لبنان لن يتمكنوا من الوصول إلى حاجاتهم الغذائية بحلول نهاية العام لأن لبنان «يعتمد بشدة على الواردات الغذائية لتأمين حاجات سكانه». وتقول الدراسة إنه بعد انفجار المرفأ وانهيار قيمة الليرة بنحو 78%، وتدابير الإقفال التي اتُّخذت لاحتواء جائحة كورونا، والارتفاع الحاد في معدلات الفقر والبطالة «قد يتعذر على نصف السكان الوصول إلى حاجاتهم الغذائية الأساسية بحلول نهاية العام»، ما بات يهدد الأمن الغذائي ويدفع اللبنانيين إلى الهجرة.
وللمقارنة أيضاً، يمكن الرجوع إلى دراسة إحصائية أجرتها مديرية الإحصاء المركزي عن عامَي 2018 و 2019 تبيّن فيها أنّ الدخل الشهري لـ72% من مجموع الأُسر في لبنان، هو أقل من 2,200,000 ليرة بحسب السعر الرسمي للدولار أي 1515 ليرة لكل دولار. وتقول الدراسة إن معظم هذه المداخيل هي حصيلة أجور، علماً بأنّ دخل أكثر من ثلاثة أرباع العاملين هو بالليرة اللبنانية. وبما أنه منذ نهاية عام 2012 لم يتم تعديل للأجور بالنسبة إلى غالبية العمال، بات ثلاثة أرباع العاملين دون خط الفقر بسبب انخفاض قيمة الليرة. وصار نحو نصف اللبنانيين يعتمدون على المساعدات المادية التي تصل إليهم من أبنائهم في بلدان الاغتراب.
يشهد لبنان منذ الاستقلال تدفّقات ضخمة من الهجرات الإحلالية تضمّ العمال الوافدين من العرب والأجانب واللاجئين الذين باتوا يمثّلون نحو نصف السكان المقيمين، علماً بأن مخزون الهجرة الإحلالية يبلغ نحو 3.7 ملايين نسمة


وتتفاقم الأزمة أكثر لمن لا يتوفر لديهم التأمين أو الضمان الصحي وعددهم مليون و 800 ألف لبناني.
رغم خطورة هذا الواقع، لم تقدم الحكومات المتعاقبة أي خطة إنقاذية لانتشال اللبنانيين من واقعهم، بل على العكس تفاقمت الصراعات السياسية على الحصص والنفوذ، كما تم تجاهل الحقائق والأرقام، بينما كانت تتوسع دائرة الفقر في مختلف المناطق كما عادت تتكوّن أحزمة البؤس حول المدن الكبرى، وخصوصاً في بيروت وطرابلس التي تعتبر أفقر مدينة على ساحل البحر المتوسط.

تحويلات مالية وتحوّلات ديموغرافية
تشير دراسة أعدّها البنك الدولي، إلى أن العمال المهاجرين في الخارج يرسلون مبالغ نقدية كبيرة من المال إلى أسرهم كل عام. ويتبين وفق استقصاء أجراه معهد بيو في عام 2007 حول المواقف العالمية من الهجرة، ويشمل السكان في 36 دولة من البلدان النامية، أن لبنان جاء في المرتبة الأولى، ذلك أن 47% المشمولين بالاستطلاع يتلقّون المال من أقاربهم، ويليه بنغلادش ، ودول أفريقيا (مالي، نيجيريا، السنغال، إثيوبيا…) وهي تتلقّى المال من أقارب يعملون في بلدان أخرى.
ومع وجود التفاوت في التقديرات، إلا أن ما تخفيه الأرقام داخل لبنان، تكشفه البيانات في الخارج حول عدد اللبنانيين المهاجرين في بلاد الاغتراب، وبخاصة بالنسبة إلى الذين هاجروا في الفترة الأخيرة، فالدراسات على اختلافها وتنوّعها، تُجمع على أن لبنان يهاجر، ويخسر موارده البشرية.
وفي مقابل خسارة الموارد البشرية، يشهد لبنان تدفق موجات ضخمة من اللاجئين، من الفلسطينيين (منذ نكبة فلسطين عام 1948)، والعراقيين (منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003)، والسوريين (منذ بداية الأزمة السورية منتصف عام 2011)، وطالبي اللجوء، تضاف إليها الهجرات غير الشرعية، وهم يتوزعون اليوم على مختلف الأراضي اللبنانية. المقارنة بين أعداد اللاجئين وعدد اللبنانيين المقيمين في القرى والبلدات المستقبلة، تظهر أن التجمعات المضيفة قد فقدت قدرتها على التحمّل والاستيعاب.



خطر وجودي
منذ إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول عام 1920، وطوال نحو 100 عام، فشل النظام السياسي في تنظيم جغرافية لبنان بحدودها الحالية رغم صغر المساحة. وبدلاً من أن يتحوّل الموقع الجغرافي إلى نعمة للبنان، حلّت لعنة الجغرافيا على اللبنانيين بفعل الانقسامات الداخلية والنزاعات في الشرق الأوسط. ففي مقابل استنزاف الموارد البشرية وهجرة الشباب، يشهد لبنان منذ الاستقلال تدفقات ضخمة من الهجرات الإحلالية التي تضمّ العمال الوافدين من العرب والأجانب، واللاجئين من البلدان المجاورة، وكذلك الهجرة غير الشرعية، ثم تزايد عدد الأشخاص العديمي الجنسية. كل هؤلاء يمثّلون نحو نصف السكان المقيمين. أجرينا سابقاً، دراسة مفصّلة عنهم أظهرت أن حجم مخزون الهجرة الإحلالية يبلغ نحو 3,7 ملايين نسمة معظمهم لاجئون (أكثر من 70%) ومن الفئات الضعيفة من السكان، ما يشير إلى التغيير السريع في التركيبة السكانية لـ«دولة لبنان الكبير» المكوّنة من طوائف وأقليات، ويشكّل خطراً على مستقبل الدولة ويؤدّي إلى تفككها.
لقد فشل لبنان حتى الآن في إدارة ملف النزوح السوري، كما فشل سابقاً في إدارة ملف اللاجئين الفلسطينيين، الذين تخلى عنهم المجتمع الدولي، وهو اليوم الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد لديها تعداد سكاني منذ عام 1932 حتى إننا لا نعرف عدد سكان لبنان، ولا عدد الساكنين فيه. كل ما بقي لدينا هو سجلات المقيمين لأجدادنا الموزّعة بحسب دوائر النفوس في المحافظات، حيث يتم تسجيل الولادات والوفيات، وهي المصدر الوحيد الذي نعتمده في تكوين لوائح الشطب للانتخابات البلدية والنيابية، بينما لا تهمنا أماكن إقامة السكان ولا التوزيعات السكانية بين المدن والأرياف، وبين اللبنانيين وغير اللبنانيين، كما أننا لا نعرف عدد المغتربين ولا توزيعاتهم.
كمحصّلة إجمالية لحركة سفر اللبنانيين، بلغ عدد الذين غادروا لبنان كمتوسط سنوي في فترة 2011-2013 نحو 50.807


في عام 2015 كتب نائب رئيس البنك الدولي فريد بلحاج عندما كان يشغل منصب مدير دائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي مقالة بعنوان: «للكرم حدود»، جاء فيها: «من يساعد لبنان والأردن على إيواء اللاجئين السوريين؟ في ما يتعلق بلبنان، فهو يشهد تحوّلاً ديموغرافياً غير مسبوق، فقد تزايد سكانه من 4,2 ملايين نسمة إلى 5,5 ملايين في أقل من ثلاث سنوات. لقد أصبح 25% من سكانه حاليا سوريين. وفيما تمضي الأيام، تتفاقم مشكلة اللاجئين وتتجاوز حدود الكرم. ولنتخيل فقط تدفق كل سكان المكسيك إلى الولايات المتحدة في عامين. ولنتخيل فقط عبور 20 مليون شخص البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا. لنتخيل فقط».
هكذا يتبيّن أن التحولات الديموغرافية المتسارعة ستؤدي خلال سنوات قليلة إلى تغيير وجه لبنان. وبنتيجة تقاعس المجتمع الدولي وفشل الأمم المتحدة في حل النزاعات، ثم تخاذل وإهمال وعدم توافق اللبنانيين في ما بينهم، فقد تحول لبنان إلى دولة هشّة (بحسب تعبير البنك الدولي)، وهو يغرق اليوم في تغيير ديموغرافي لا سابق له تاريخياً. فمن جهة يتناقص عدد السكان اللبنانيين نتيجة نقص الخصوبة وانتشار الشيخوخة والهجرة. ومن جهة أخرى، أصبح لبنان بتشجيع ودعم أمني أوروبي وأميركي، خزاناً للمهاجرين غير الشرعيين، والمكتومين من دون جنسية، واللاجئين والمشردين الوافدين من البلدان المجاورة لإبعاد الخطر عن أوروبا. وإذا استمر المجتمع الدولي في تقاعسه، وهو يعمل لحماية هذا الخزان البشري من الانفجار، وفشل اللبنانيون في حماية بلدهم بفعل الانقسامات السياسية، فإن لبنان اليوم أمام خطر وجودي والثمن سيكون باهظاً جداً.

* أستاذ جامعي وخبير في شؤون السكان والهجرة



ظاهرة هروب الأدمغة
لا بدّ من الإشارة إلى السمة الأساسية في هذه الظاهرة، أنها هجرة أدمغة من أطباء ومهندسين وأصحاب مهارات، بحثاً عن وطن بديل، إذ يُصنّف لبنان في المرتبة الـ 113 بين 144 دولة في العالم نسبة إلى ظاهرة هجرة الأدمغة مع ارتفاع نسب المهاجرين من الجامعيين (44%)، ما أدى إلى خسارة لبنان للموارد والمهارات البشرية.
ويُراوح عدد المهاجرين اللبنانيين والمغتربين من أصل لبناني، المنتشرين خارج لبنان في بلدان العالم ما بين 8 ملايين و 12 مليون نسمة، أو ما يزيد عن ضعف عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان. يشمل هذا العدد، المهاجرين منذ القِدم مع أنسبائهم وأحفادهم من جميع الطوائف وخصوصاً المسيحيين الذين كانوا يشكلون غالبية الهجرات القديمة.

Wednesday, February 10, 2021

إلغاء الطائفية السياسية ضروري لإستعادة الدولة المخطوفة والبناء على أسس متينة



إلغاء الطائفية السياسية ضروري لإستعادة الدولة المخطوفة والبناء على أسس متينة


https://al-hiwarnews.com/?page=category&CatId=13

2020-04-28
|
1210 مشاهدة

محليات لبنانية

 د. علي فاعور- الحوارنيوز خاص*

يبدو أن وباء الطائفية السياسية قد بات اليوم الملاذ الآمن لحماية الفساد والمحاصصة، وهو أشد خطراً على الدولة من فيروس كورونا..

وكلما حصلت محاولة لفتح ملفات الأموال المنهوبة والمهربة، أو محاسبة أحد السياسيين.. ترتفع الحواجز الطائفية والسياسية لمنع  التقدم نحو محميات الفساد، حيث تنتفض رموز الفساد الحكومي تساندها بعض المرجعيات الدينية، لترسم الخطوط الحمراء، وتضع العراقيل، وتؤمن الغطاء اللازم لحماية الفاسدين.

بين سقوط الحكومة وإزاحة الحاكم

وهذا ما حصل بعد جلسة مجلس الوزراء في بعبدا يوم الجمعة بتاريخ 24 نيسان،  وبعد كلمة رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب الذي تحدث فيها عن الإنهيار المالي وتدهور سعر صرف الليرة بشكل مريب في السوق السوداء، حيث تتعامل الحكومة بواقعية مع "الثقب المالي الأسود في لبنان"، وذلك لمواجهة التصدّعات الاقتصادية، وتراكم الديون، والأزمات الاجتماعية والمعيشية التي تتعمّق، وفي ظلّ ضعف الثقة، داخلياً وخارجياً، بالدولة اللبنانية. وطالب بالمزيد من الصراحة والشفافية في كشف الأرقام والحقائق ومصارحة اللبنانيين بعد أن تبخرت التطمينات السابقة لحاكم مصرف لبنان، حيث يعيش الناس في قلق كبير على لقمة العيش، وجنى العمر بعد أن تبخرت الرواتب..
كما أكد أن الحكومة ستكون مظلة متينة لورشة مكافحة الفساد، و كشف عن ثمانية قرارات حكومية تتم مناقشتها، وتتضمن تفعيل التحقيق الضريبي الداخلي والخارجي على مختلف المستويات لجميع الأشخاص الذين تعاملوا مع الدولة او المؤسسات العامة او البلديات، وإجراء مسح شامل حول مظاهر الثروة العائدة لجميع الشخصيات  التي شغلت مناصب وزارية ونيابية وأفراد عائلاتهم، ثم تفعيل الرقابة المؤخرة لديوان المحاسبة..
  
بل ولأنها المرة الأولى منذ 27 سنة، تاريخ تعيين حاكم مصرف لبنان عام 1993، والذي يحتل الموقع الأول في هندسة السياسات المالية والنقدية في لبنان، وعلى لسان رئيس الحكومة من على منبر رئاسة الجمهورية في بعبدا، وبصراحة غير مسبوقة، تتم فيها مكاشفة اللبنانيين حول وجود فجوات كبرى في مصرف لبنان والخسائر المتراكمة في مالية الدولة بعد الهندسات المالية الأخيرة، بل أن الكلام الذي صدر عن رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب بالأمس حول إنهيار الليرة والمالية، يكفي وحده لإزاحة جبل من مكانه ..

وهذا ما إستدعى التحرك المضاد على الفور، لتأمين الحصانة الدينية ومنع المساءلة، وحشد الإستنفار السياسي والطائفي وبخاصة من قبل رؤساء الحكومة السابقين، وبعض الوزراء، والمرجعيات الكبرى في الطوائف، ورجال المال، ورأى البعض أنها محاولة لتغيير النظام الإقتصادي الحر، والبعض الآخرأنها تستهدف "السنية السياسية"، كما تحركت القوى السياسية للرد على هذه المواقف التي إعتبرتها بمثابة إنقلاب على المعادلات والسياسات التي كانت معتمدة طيلة الفترة السابقة.. سيّما وأن جدول أعمال مجلس الوزراء المنتظر يتضمن إتخاذ قرارات لمكافحة الفساد، كما وأن الخطة الإقتصادية الإصلاحية للحكومة سوف تبصر النور خلال الايام القادمة.

إذا كانت كلمة رئبس الحكومة في بعبدا قد إنتهت بنص من الآية الكريمة " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ"، وبعد أن وافق مجلس النواب على مشروع "قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"؛
فقد بدا لافتاً للجميع الإستنفار الكبير في دار الفتوى، والبطريركية المارونية، لمؤازرة حاكمية مصرف لبنان، بعدما أعطى مجلس الوزراء الضوء الاخضر للبدء بتدقيق حسابات المركزي، وإعتبارما تتعرض الحاكمية "كمحاولة لتغيير وجه لبنان"....
بينما لم تحصل أي مبادرة سابقة طيلة الأشهر الماضية للدفاع عن أموال المودعين المحتجزة في المصارف، أوحتى التضامن مع الأسر الفقيرة في البحث عن لقمة العيش بينما يتزايد عدد المشردين والفقراء وترتفع معدلات البطالة وتزداد المخاوف حول الأمن الإجتماعي.

لقد فاجأت مواقف رئيس الحكومة الجميع عندما قال لاحقاً في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي:" فعليا، ليس لدينا ما يسمى دولة عميقة تمثل فكرة الدولة"..  سيّما وأنها المرة الأولى التي يتحدث فيها بعد 73 يوما على نيل الحكومة ثقة مجلس النواب.. وكذلك بعد يومين من جلسة نيابية انعقدت في قصر الأونيسكو في 21 نيسان وذلك بعد مضي أكثر من ستّة اشهر لم تنعقد خلالها أي جلسة للبرلمان منذ إنتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حيث تكشف عن وجود 73 مشروع قانون طرحت للبحث ونوقشت بسرعة على مدى يومين، وكانت المفاجأة فيها تعطيل التصويت على القضايا التي تبناها معظم السياسيين سابقاً، والتي تعتبر محور محاربة الفساد، وتضم رفع السرية المصرفية عن السياسيين والوزراء، وإسترداد الأموال المنهوبة، وتعديلات على قانون الإثراء غير المشروع، حيث تمت إحالتها للدرس في اللجان النيابية.
كما كان صادما للجميع وبخاصة لأعضاء الحكومة تطيير النصاب قبل التصويت على قانون يتم بموجبه تخصيص مبلغ 1200 مليار ليرة لشبكة الأمان الإجتماعي، كمحاولة لمساعدة الفئات الضعيفة من الشعب، والمتضررة من تداعيات أزمة وباء "كورونا". حيث انسحبت الكتل النيابية الكبرى قبل مناقشة الموضوع، الذي تأجل لأسباب شكلية، بينما على الأرض، تتفاقم الأزمات المعيشية الناجمة عن مفاعيل التعبئة العامّة والبطالة والمرض والجوع... وحيث تبيّن بوضوح في نهاية الجلسة عدم التضامن بين أكثرية مكونات الكتل النيابية وبين أعضاء الحكومة التي تتحرك لتأمين الرغيف ودعم الدواء وتخوض حالة مواجهة إستثنائية لمنع إنتشار فيروس كورونا، وتأمين عودة المغتربين، وبخاصة الطلاب في الخارج، والتي تفاجأت بعدم التجاوب معها،حيث يتوجب الإسراع في توصيل الدعم للفئات الضعيفة من السكان، ممن فقدوا أعمالهم، وبخاصة المياومين والعاملين في القطاع الهامشي وغير المنظم، الذين توقفت موارد رزقهم.. ما يساعد في تفادي الإنفجار الإجتماعي قبل حدوثه. إنها حرب مالية واضحة تستهدف معيشة اللبنانيين، وهي تكاد تكون الأقسى منذ الحرب اللبنانية الأخيرة قبل ثلاثة عقود.

إلغاء الطائفية السياسية وتأكيد العيش المشترك

هكذا يتبيّن أن الطائفية السياسية برموزها وأشكالها، ومرجعياتها في الحكم، هي الملاذ الآمن للفساد والتهرب من المساءلة، وهي التي تمثل اليوم "علة لبنان"، كما وأن الحوادث السابقة قد بيّنت، أنها كانت على الدوام نقيض الديموقراطية، والعائق الأساسي في تطبيق العدالة والمواطنية، وهي قد تقاسمت مؤسسات الدولة، والمواقع الإدارية الكبرى فيها، وحوّلتها إلى محميات طائفية لا تخضع للمحاسبة.
وبعد مرور أكثر من 30 سنة على توقيع "إتفاقية الطائف" التي تنص على إلغاء الطائفية السياسية، وحتى تاريخه فقد تم تجاوز البنود المتعلقة بإلغاء النظام الطائفي، وباتت المرحلة الإنتقالية مرحلة دائمة، مما يتناقض مع مصلحة الوطن ويشكل إنتهاكاً لجوهر الإتفاقية، فقد شكلت الطائفية وسيلة للإقطاع السياسي لضمان الحفاظ على مصالحه وإمتيازاته، كما تكرَّس الحكم الطائفي من خلال المحاصصة الطائفية والمذهبية بين أمراء الحرب بحجة تمثيل الطوائف، وبات دستور لبنان السياسي الفعلي منذ عام 1992 تحت سلطة زعماء الطوائف، الذين تحالفوا مع رجال الأعمال والمال باسم الميثاقية، دون اعتبار لأي منطق دستوري وقانوني في إدارة الدولة التي باتت أسيرة توازنات وحصص يغلب عليها دائما مصلحة الطائفة على حساب مصلحة المواطن والدولة، مما حال دون قيام دولة القانون والعدالة والمؤسسات، وأدى  إلى إنتشار الفساد وتعطيل الدولة بالكامل.
وبدل أن يتم تعزيز الإنتماء الوطني ومبدأ العيش المشترك، وإشعار المواطنين على إختلاف إنتماءاتهم بأن الدولة ترعى شؤونهم، حيث "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"، كما ورد في مقدمة وثيقة الوفاق الوطني، إتفاق الطائف ، فقد ترسخت فكرة الإنتماء الطائفي وهيّمنة الزعيم في كل طائفة، حيث يتم توزيع المغانم والمواقع على المحاسيب والأزلام، دون مراعاة للكفاءة والعدالة في المشاركة، وهذا ما أدى إلى صراعات سياسية على توزيع الحصص والمصالح خارج الضوابط التي تنص عليها القوانين والدستور ودون مراعاة المصلحة العامة، مما أدى إلى فراغ في الحكم، وشلل في المؤسسات الدستورية وتحجيم الدولة، وإنتشار الفساد..

لقد تعرض النظام السياسي طيلة الفترة الماضية الى تعميق التناقضات الداخلية نتيجة ممارسات  أدت إلى تعطيل قواعد النظام البرلماني، وإلغاء  دور المؤسسات الدستورية، وتحويل الدولة إلى مزرعة يتقاسم مواردها زعماء الطوائف ليتم توزيعها على المحاسيب والمقربين، بل لقد فشلت الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ الطائف في إيجاد الحلول للمشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية، حيث تراكمت الديون الخارجية التي بلغت ما يزيد عن مئة مليار دولار ، ما تسبب بإنهيار الدولة وهيمنة الإقتصاد المتوحش، وإنتشار البطالة والفقر، وأدى إلى إنتفاضة 17 تشرين أول 2020، لتبدأ معها مرحلة جديدة يطالب فيها الشعب بإستعادة سيادته التي كرسها الدستور في الحكم، بحيث يتم تنفيذ ماورد في الطائف لجهة "إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة"(الإتفاق االوطني، الطائف ص: 5).

وهذا يتطلب اليوم إحياء النظام البرلماني لإعادة التوازن وتأمين المشاركة الحقيقية، وتجاوز الأزمات والتعاون بين السلطات  لإعادة بناء الدولة، ذلك أن  "الشعب مصدر السلطات وصاحب السیادة یمارسها عبر المؤسسات الدستوریة" (كما ورد أيضاً في مقدمة إتفاق الطائف ، حيث المطلوب في حل النزاع السياسي الإحتكام إلى الشعب دون الحاجة إلى توافق الزعماء كما يتم في لبنان على قاعدة الميثاقية، وفي حال عدم التوافق يتم شلل المؤسسات ويستمر الفراغ كما يحدث بإستمرار حيث تؤدي المواجهات السياسية إلى تعطيل المرافق العامة وأحيانا إنهيار الدولة.
بحيث أن الفساد الحكومي والعجز السياسي الطائفي يدفع المواطن معظم الأحيان إلى الدخول في دهاليز الإنتماءات الطائفية والمذهبية التي تخدم منفعة السياسيين أو رجال الدين وتحول دون تكوين حراك سياسي منظم وعابر للطوائف والمناطق لقلب التوازنات القائمة وإلغاء نظام المحاصصة، وتحقيق التغيير المطلوب.

خلاصة عامة
إن مهمة بناء الدولة، لا تبدو مستحيلة، كما تؤكد كافة التجارب الناجحة، لكنها لا تستقيم بمحاربة الفساد الإقتصادي وتحقيق الإصلاحات المالية والإدارية فقط، برغم الحاجة لها، بل هي تستوجب وضع خطة إصلاح شاملة لتطهير كافة مرافق الدولة، وتحصين المجتمع برفع الأيدي التي تعطل الشفافية وتمسك بقرار الحكم، وتفعيل الرقابة والمحاسبة من دون تدخل أو خطوط حمر، أو مظلات لتحييد اللأزلام، وتغيير النهج المرتكز إلى المحاصصة الطائفية في النظام، بإعتبار أن "النظام قائم على الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها"(كما ورد في مقدة إتفاق الطائف)..
وهي مهمة تبدو صعبة في مواجهة الفساد المنتشرعبر شبكات توسعت وتغلغت في مفاصل الدولة اللبنانية منذ قرابة ثلاثة عقود، لكنها تبقى ممكنة  لوقف التدهور الحاصل قبل الإنفجار الإجتماعي وقبل فوات الآوان.
  إنها لحظة تاريخية ينتظرها اللبنانيون لإسترجاع دولتهم المخطوفة، وإستعادة أبنائهم الذين تهجروا في مختلف بقاع العالم.. وهم اليوم في لحظة الحقيقة، لتفادي الخطر الذي يلاحقهم، يناشدون الدولة لإستعادتهم وإنقاذهم من الوباء العالمي..

*أستاذ الجغرافيا ورئيس مركز السكان والتنمية.

https://al-hiwarnews.com/?page=category&CatId=13


 

خارطة لبنان ما بعد كورونا.. هل نحن أمام 
انفجار اجتماعي؟


 


د. علي فاعور*

   بينما دخلت كورونا مرحلة الاستقرار المرحلي في لبنان، فقد بدأت تتوضح الصورة. . لقد عادت التحركات الاجتماعية الى الواجهة من خلال الاحتجاجات الشعبية المتنقلة من طرابلس الى وسط بيروت وصيدا... حيث تدل كافة المؤشرات المعيشية اننا دخلنا مرحلة حاسمة بدأت تنذر بانفجار الأوضاع الإجتماعية نتيجة تزايد أعداد الذين فقدوا أعمالهم..  وتوقف آلاف المياومين عن كسب قوتهم اليومي..
بالمقابل.. ونتيجة إعلان التعبئة العامة والحجر المنزلي منذ يوم الأحد في 15 آذار الماضي..  فقد تراجعت القدرة على الصمود ومواجهة غلاء الأسعار الحاصل لدى العديد من الأسر التي بات مدخولها لا يكفي الحد الأدنى لتأمين مستويات الأمن الغذائي.. من الرغيف والطعام الى الدواء والأغذية الضرورية للأطفال..
ومع تفاقم الأزمة المعيشية نتيجة ارتفاع سعر الدولار وتراجع مدخول الأسرة .. ثم تزايد أعداد الفقراء ممن تقطعت أمامهم سبل الرزق..فهل نكون أمام مفاجآت إجتماعية سياسية غير محسوبة خلال الأشهر القادمة..

    ولمواجهة الأزمة التي عطلت دورة الحياة الإقتصادية، حيث معظم المرافق والنشاطات الإقتصادية شبه متوقفة، تحاول الحكومة حماية الأمن الاجتماعي من خلال تقديم معونات لدعم الأسر الأكثر فقرا.. بالإضافة الى الجهود التي تبذلها هيئات المجتمع المدني لتقديم مساعدات عينية وتموينية لتفادي الانهيار الإجتماعي.. لكن الواقع يؤكد أن الأزمة تتوسع في ظل الحجر المنزلي وتوقف معظم الشركات والمؤسسات والإدارات العامة، مما أدى إلى تزايد حدة البطالة بين الشباب.. وتزايد الأعباء المعيشية بالنسبة للأسر المتوسطة الدخل والتي فقدت مدخراتها وباتت تعيش دون خط الفقر، عاجزة عن توفير "السلة الغذائية" وشراء المواد الضرورية مثل الحبوب والأرز والبرغل والعدس.. وحليب الأطفال... تضاف إليها أكلاف الإيجارات واللباس والتعليم وغيرها.

وهي قد تضاعفت مع إرتفاع سعر الدولار، مما أدى إلى تآكل القيمة الفعلية للرواتب بنسبة تقارب ال 50 في المائة حتى اليوم. وحيث يتم إستيراد نحو 80 في المائة من السلع الغذائية الضرورية. وهذا ما دفع العديد من الأسر لطلب مساعدات عينيّة ومعونة إجتماعية.

إعتماد لغة الأرقام وكشف الحقائق

      تؤكد التقديرات الأخيرة إلى أن ما يزيد عن 50 في المائة من الشعب اللبناني قد بات اليوم تحت خط الفقر، خاصة وأن نسبة الفقر قد إرتفعت بعد الأزمة السورية وتدفق آلاف النازحين واللاجئين إلى لبنان الذي بات اليوم بمثابة مخيّم كبير يضم قرابة ثمانية ملايين ساكن، يعيشون في مساحة ضيقة من الأرض، وذلك في غياب شبكة الأمان الإجتماعي التي تتميز بأنها ضعية ولا توفر الحماية اللازمة، بحيث أن نسبة الإنفاق الحكومي على شبكات الأمن الإجتماعي  قد بلغ نحو 1,3 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي بحسب تقديرات البنك الدولي عام 2010، كما تؤكد المعطيات الإحصائية الأخيرة  الصادرة عن وزارة الصحة في لبنان أن هناك قرابة مليون و 800,000 لبناني لا تتوفر لديهم التغطية الصحية اللازمة عام 2019، كما أن أكثر من 10في من الأسر الفقيرة لا تتمكن من الحصول على مياه الشرب النظيفة، يضاف إليها أن السكان الذين يعيشون في فقر مدقع، هم أكثر عرضة للتشرد والمرض وسوء التغذية وغيرها من المخاطر.

خطة للإنعاش الإقتصادي وحماية الأمن الغذائي

      لهذا فقد أطلق رئيس الحكومة "خطة التحفيز والأمان الاجتماعي" بقيمة 1200 مليار ليرة لبنانية سيتمّ إنفاقها لتغطية أعباء مواجهة كورونا ومساعدة المياومين في القطاع العام ودعم القطاع الصحي والمزارعين وإعطاء المؤسسات الصناعية الصغيرة قُروضاً مدعومة لتحفيز الصناعة الوطنية، كما يتواصل النقاش حول وضع "خطة لإطلاق العجلة الإقتصادية وإعادة فتح البلد"، وحماية الأمن الغذائي من خلال منع الإحتكار وضبط الأسعار، لكن التقديرات المتوفرة تشير إلى حدوث أزمة وشيكة بحيث أن المخزون الغذائي قد لا يكفي الإستهلاك الداخلي أكثر من شهرين، كما يخشى في إطار التدابير التي تتخذها الدولة لمواجهة مخاطر تفشي وباء كورونا، وإعلان التعبئة العامة واقفال المطار والمرافق العامة، من فقدان المصانع للسلع والمواد الأولية اللازمة للتصنيع،  مما يتطلب تدابير إستثنائية لتفادي الإنهيار الإقتصادي وفقدان الأمن الغذائي سيّما وأن البلد يواجه منذ فترة أزمات مالية وإجتماعية خانقة، بينما يعتمد الإقتصاد اللبناني على الإستيراد والتدفقات الخارجية، حيث يسهم فيه قطاع التجارة والخدمات بحوالي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي، وهو يؤمن نحو 73 في المائة من الوظائف. كما أن  الإنتاج المحلي اللبناني يؤمن اليوم أقل من ربع حاجه السوق حيث تتعمق الفجوة الغذائية ويتزايد الطلب على الإستهلاك الداخلي من القمح ومنتجات الألبان والأجبان واللحوم، بحيث إنحفض مثلاً حجم الإنتاج اللبناني من القمح المحلي إلى نحو 40  ألف طن، بينما تصل حاجته إلى ما بين 450 و550 ألف طن سنويًا، حيث يتم إحتكار إستيراد القمح والطحين، بينما هو يمثل سلعة ضرورية جدا للإستهلاك اليومي مع تزايد عدد السكان المقيمين في لبنان. لهذا فقد بلغت قيمة الإستيراد من القمح نحو 131 مليون دولار أميركي أي ما يوازي 576 ألف طن سنويا (أرقام 2018).  كذلك فقد استورد لبنان أيضاً نحو 350 ألف طن من الذرة الصفراء بقيمة 115.5 مليون دولار، واستورد نحو 90 ألف طن من فول الصويا بقيمة 10.5 مليون دولار لتبلغ كلفة استيراد هذه الأنواع من الحبوب التي تشكّل المكوّنات الرئيسية للأعلاف الضرورية للدواجن بقيمة 156 مليون دولار.

ولتعويض هذه الفجوة الغذائية الواسعة، هناك حاجة أيضاً لإتخاذ إصلاحات والقيام بإجراءات شاملة وتقديم التعويض والدعم اللازم للعمال والمؤسسات لإستيراد المواد الأولية وحماية المخزون الإستراتيجي المطلوب للأشهر القادمة، وإذا كان من الصعب محاسبة التجّار الذين لطالما كان همهم الربح، لكنها مفارقة عجيبة أن نرى قطاعات إقتصادية واسعة كانت تعتمد سياسة الإستيراد طيلة عقود، دون أن تخلق هيكلية او تضع خطة إقتصادية سليمة لوقف الإحتكارات، ومُستدامة لإنتاج السلع والبضائع وإنشاء مدن صناعية وتكنولوجية وزراعية لتطويرلإقتصاد اللبناني، علماً أن سياسة الإحتكار تُشكّل أكبر مخالفة للدستور اللبناني الذي نصّ على أن الإقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ.

      أما اليوم، ولمواجهة التداعيات  التي خلفتها أزمة وباء كورونا، خاصة ما يتعلق بحظر التجول وإجراءات العزل المفروضة على غالبية السكان، فقد دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعض الدول وبينها لبنان، للتنبه "والإستعداد لتداعيات مدمرة محتملة"، قد تؤدي مع إنتشار الفقر والبطالة، إلى التنبه من  حدوث "زلزال إجتماعي وإقتصادي" قد يغير التوازنات القائمة ولا يمكن السيطرة عليه.

     لهذا، وعلى ضوء ما ورد، ماذا ستكون النتيجة لو توقفت الدولة عن توفير الدعم المالي اللازم لإستيراد القمح والبنزين والدواء؟ وهل ما زالت الفرصة متاحة اليوم لوضع خطة للإنعاش الإقتصادي، وحماية الأمن الغذائي وتفادي حصول الإنفجار الإجتماعي؟ 

لمواجهة الأزمات وحماية الأمن الغذائي، لا بد من إعتماد تغييرات جذرية لإنقاذ لبنان، بل لقد حان الوقت لتغيير السياسات الإقتصادية والمالية الفاشلة، والتي إعتمدتها الحكومات المتعاقبة  منذ أكثر من ربع قرن، وهي تبدأ من أولوية العودة إلى الأرض والزراعة والإنتاج، لا سيّما وأن نحو 63 في المائة من مساحة لبنان تعتبر صالحة للزراعة، بينما المساحة المزروعة اليوم تقدر بنحو 20 في المائة فقط، حيث تراجعت مساهمة الزراعة من الناتج المحلي إلى حوالي 3 في المائة فقط، كما تراجعت الصادرات الزراعية بنسب مرتفعة نتيجة الحصار المفروض على لبنان حيث يستمر وضع الحواجز أمام الصادرات اللبنانية نتيجة إقفال الحدود والمعابر البرية عبر سوريا ونحو البلدان العربية، مما أدى إلى تراجع قطاع الزراعة، وهذا يتطلب إتخاذ تدابير تسرّع عودة العلاقات مع سوريا وفتح المعابر ووضع خطة شاملة لضبط الحدود البرية بين البلدين.

كما تراجع أيضاً قطاع الصناعة الذي كان يمثل أكثر من 16 في المائة من الناتج المحلي عام 1975، وإنخفض إلى ما دون 10 في المائة عام 2010، وهو يستمر بالتراجع التدريجي، حيث تم إقفال العديد من المصانع (صناعة الأحذية والملبوسات..) نتيجة سياسة السوق المفتوحة وإغراق الأسواق المحلية بالبضائع المستوردة. ..راجع الخریطة المرفقة حول توزیع مساحة الأراضي الزراعیة والإنتاج الزراعي في لبنان

الإنفاق العام على القطاعات المنتجة

وما يسترعي الإنتباه هو تراجع الإنفاق العام على القطاعات المنتجة مثل الزراعة والصناعة، حيث أن الإنفاق العام هو بمعظمه إنفاق جاري وغير مجدي، ولا توجد سياسة إنمائية واضحة لتحديد الأولويات في توزيع الإنفاق العام، وهذا ما يتبيّن من مشروع الموازنة المقدم لعام 2020، حيث يلاحظ أن الإنفاق على وزارة الزراعة يمثل 0.31 في المائة من مجمل النفقات، كما أن الإنفاق على وزارة الصناعة يمثل أيضاً 0.04 في المائة من مجمل النفقات، بحيث أن مجموع الإنفاق المعتمد للزراعة والصناعة لا يمثل سوى 0.35 في المائة من مجمل إنفاق الموازنة، بينما لا يجب أن تقل هذه النسبة عن 10 في المائة بحسب توجهات البنك الدولي، لكن ما يسترعي الإنتباه، أن هذه النسبة أدنى من تلك المخصصة كمساهمات إلى هيئات وجمعيات لا تبغي الربح والبالغة 0.67 في المائة.

لكن البارز أيضاً أن السياسة الإقتصادية المعتمدة تشجع الإستيراد، وتعمل لخدمة التجار، ولا تؤمن الحماية اللازمة للصناعة المحلية ودعم اليد العاملة اللبنانية، ما أدى إلى تراجع الإنتاج الصناعي... حيث تبلغ قيمة الصادرات اللبنانيّة ثلاثة مليارات دولار في مقابل إستيراد تبلغ قيمته عشرين مليار دولار سنوياً.

وتشير التقديرات اليوم إلى تزايد خسائر الإقتصاد اللبناني في ظل الأوضاع المتردية والكساد ونتيجة الإقفال وتوقف الحركة التجارية، تقدر بأكثر من 100 مليون دولار يومياً، بالإضافة إلى خسائر القطاع السياحي وخسائر قطاع التجارة واقفال المحلات والمخازن الكبرى وتسريح العمال وخسارة الألاف من الوظائف... وهذا ما يتبين اليوم من عدم إلتزام السكان وبخاصة الشباب منهم، بقانون التعبئة العامة، وتدابير التباعد الإجتماعي، حيث تحركت الإحتجاجات في أحياء طرابلس وبيروت وصيدا..

إحياء وزارة التصميم العام وإلغاء نظام المحاصصة عبر الصناديق

    عام 1954 تم تأسيس وزارة التصميم العام وذلك بهدف تخطيط السياسات الحكومية وتنسيق المشاريع الإنمائية، وإعداد خطة عامة شاملة وتصاميم متعاقبة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ثم جمع المعلومات الإحصائية المتعلقة بمختلف أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي...

و في بداية العام 1960 فقد تم تكليف مؤسسة فرنسية، هي بعثة IRFED التي قامت بدراسات تفصيلية وأعدت لأول مرة دراسة وإحصاءات شاملة، إنتهت إلى وضع «التصميم الشامل للإنماء». لكن المشروع توقف مع إنتهاء ولاية الرئيس فؤاد شهاب .

لكن وفي عام 1977 وبعد حرب السنتين، تم إنشاء مجلس الإنماء والإعمار ليحل مكان وزارة التصميم العام والقيام بمهامها.. وهكذا فقد تم إسناد مختلف مشاريع التنمية والإعمار إلى مجالس توزعت وفق نظام المحاصصة، حيث تم إنشاء الصندوق المركزي للمهجرين عام 1993،  ومجلس الجنوب عام 1970، وقد توزعت هذه المجالس بحسب المناطق وإستمرت تعمل تحت وصاية رئاسة مجلس الوزراء دون وضع أو تنسيق أي خطة متكاملة على الصعيد الوطني الشامل.

من ناحية أخرى وبعد وضع إتفاق الطائف عام ، وإقرار مبدأ "الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وإعتباره  ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام." بدأ الحديث عن الخطة الشاملة للإنماء، والتي لم توضع إلا بعد مرور أكثر من عشر سنوات، وتمّت تسميتها «الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانيّة». بقرار من مجلس الوزراء عام 2001، وقد أعدت الخطة من قبل شركة خاصة عام 2004 تحت رعاية مجلس الإنماء والإعمار. وكان من الأهداف الأساسية لهذا المشروع، بحسب المجلس، العمل على وضع الخطة الإقتصادية الشاملة، وتطوير مبدأ الإنماء المتوازن للمناطق، وتوزيع الخدمات والتجهيزات، وقد أقرمجلس الوزراء هذه الخطة كمخطط توجيهي عام 2009 بموجب مرسوم لا زال ينتظر التطبيق، بينما يستمر الإعتداء على الموارد الطبيعية (إنتشار الكسارات مثلاً) مما أدى إلى تلوّث البيئة وتدهور المحيط الطبيعي وتحوّل مساحات واسعة من الأراضي إلى مناطق صحراوية جرداء، ويعتبر تلوّث نهر الليطاني كمثال فاضح للسياسات الإقتصادية الفاشلة بينما تمثل مساحة حوض الليطاني نحو 20 في المائة من مساحة في لبنان.

خلاصة

ما بعد كورونا ليس كما قبله، العالم سوف يتغير، ولبنان كذلك، والإنتفاضة الشعبية التي بدأت في 17 تشرين الأول 2019 لن تتوقف كما يظن البعض، بل نحن في بداية مرحلة جديدة تؤسس لبناء  دولة المواطنية وإلغاء نظام المحاصصة الذي حول لبنان إلى دولة فاشلة، ودفع به إلى الإنهيار الإقتصادي والإفلاس المالي الذي بات اليوم يمثل على المستوى الدولي، إنموذجاً فاشلاً لا مثيل له في العالم.

لا يفتقر لبنان للموارد الطبيعية، وهو غني أيضاً بموارده البشرية الخلاقة والتي باتت تنتشر في مختلف بقاع العالم، بل لقد أثبت لبنان مقدرة فائقة في مواجهة كورونا من حيث الكفاءات العلمية والتنظيم حيث يتوفر لديه نحو 16 ألف ممرضة وممرض مع حوالي 13 ألف طبيب، بالإضافة الى  احتلاله المرتبة الأولى بين الدول العربية في جودة الخدمات الصحية..

لبنان بحاجة اليوم لمن يكشف الحقائق في مبادرات جدية لمكافحة الفساد في القطاع العام، واعتماد الشفافية في لغة الأرقام لوضع خطة متكاملة للإنقاذ، وإسترجاع الأموال المنهوبة، بينما كان يتم تضليل الناس للتستر على السياسات الخاطئة  والإستمرار بتراكم الدين العام مع عجز سنوي يفوق الخمسة مليارات دولار مقابل تراجع بالايرادات.

هكذا ومنذ عام 1992، ونتيجة إعتماد نظام المحاصصة، وإنتشار الفساد، والسياسات الإجتماعية والإقتصادية والمالية الفاشلة،  فقد توسعت فجوة اللامساواة بين اللبنانيين، كما إرتفعت معدلات البطالة والفقر نتيجة إنهيار قطاعات الإنتاج الحقيقي مثل الزراعة والصناعة، في مقابل نمو الخدمات وبخاصة قطاعي التجارة والخدمات، وهذا ما أدى إلى خسارة لبنان لموارده البشرية، والتحول إلى دولة هشة عاجزة عن الصمود في وجه الأزمات.

في النهاية.. وحتى لا نضيّع لبنان، لا بد من الرجوع إلى مقالة معبرة كتبها المفكر ميشال شيحا عام 1945، حيث ورد فيها الآتي:" إذا لم ننتبه للأمر فإن بلدنا الصغير سيضيق بنا فأكثر.. علينا أن نتذكر على الدوام أننا لا نملك سوى آكثر بقليل من عشرة آلاف كلم2 فقط.. يجب أن ننظم انفسنا كي لا نضيّع، في بقاعنا او ساحلنا او جبلنا أو جنوبنا، أية من ثرواتنا الطبيعية، أن لا نضيّع ذرة واحدة من  التراث والجغرافيا والتاريخ الذين قدر لنا إمتلاكها...ومن أهم إهتمامات الحكومة اللبنانية، أية حكومة كانت، أن تعالج المسائل المتعلقة بالكثافة السكانية وإستعمالات الأراضي".


*عميد في الجامعة اللبنانية (سابقا) وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية.

الأولوية لحماية كبار السن في لبنان.. 508 آلاف مسن في لبنان

 

لبنان 2021: 7.5 مليون ساكن من 188 دولة

  

لبنان 2021: 7.5 مليون ساكن من 188 دولة


https://www.alhakaek.org/?p=13714
موقع ومجلة الحقائق اللبنانية
مجلة الحقائق اللبنانية

د. علي فاعور

يعود تاريخ التعداد السكاني الأول والأخير في لبنان إلى العام 1932، حيث بلغ عدد السكان 1,046,164 نسمة، ومنذ تلك الفترة يستمر لبنان بتجاهل إجراء التعداد السكاني للمقيمين على أرضه  كغيره من دول العالم، حتى أنه بات يصنّف اليوم البلد الوحيد في العالم الذي لا يعرف عدد سكانه، سواء بالنسبة للمقيمين منهم، أم للمهاجرين في الخارج، حيث تعتمد الأرقام المتوفرة على المسوحات العشوائية والدراسات الاستقصائية التي تنفذ بشكل غير منتظم، وعندما يتوفر التمويل والمساعدات من الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وذلك لعدم الكشف عن التركيبة الطائفية، لجهة توزع اللبنانيين على الطوائف ال18 التي يتكون منها المجتمع اللبناني، وللحفاظ على إتفاق المناصفة، وحماية التوازن القائم في توزيع الحصص بين المسلمين والمسيحيين.

لهذا يستمر لبنان بإعتماد سجلات قيد النفوس التي تصدرها المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية والتي تتضمن كافة السكان المقيمين منهم والمهاجرين في الخارج، والذين بلغ عددهم 2,367,141 نسمة مسجلين حتى بداية عام 1965، لكن هذه الأرقام لا تكشف توزيعات اللبنانيين حسب الطائفة، كما يتبيّن من خريطة الإحصاءات الأخيرة التي تضم آخر جداول الشطب لعام 2020، وتتضمن توزيعات الناخبين المسجلين بحسب الأقضية، ان عددهم يبلغ 3,860,939 نسمة (ممن أعمارهم 21 سنة وأكثر)، بحيث يمكن تقدير العدد الإجمالي في سجل القيد حتى نهاية العام بنحو 5,8 مليون نسمة. بينما بالمقارنة مع العام 2016، فقد كان عدد الناخبين في لبنان يبلغ بحسب جداول الشـطب 3,627,965 ناخب، واستنادا إلى هذا الرقم، فقد تم تقدير عدد اللبنانيين المسجلين بنحو 5 ملايين و400 ألف نسمة..(بينما بلغ عدد اللبنانيين المسجلين في العام 2006 نحو 4,571,000 نسمة).

ويتبيّن بحسب المسح الأخير الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي عام 2018، أن عدد السكان المقيمين في لبنان يبلغ نحو 4,8 مليون نسمة (لا يشمل العدد المخيمات الفلسطينية ومحيطها، ولا يغطي الوحدات غير السكنية للنازحين)، بينما بلغ عدد اللبنانيين منهم نحو 3,8 مليون نسمة يمثلون 80 في المائة من مجموع المقيمين..أي أن عدد اللبنانيين المقيمين في الخارج يبلغ قرابة مليوني نسمة، ويمثلون ما يعادل ثلث السكان المسجلين في لوائح قيد النفوس. بينما تشير آخر توقعات دولية أجرتها شعبة السكان في الأمم المتحدة أن عدد المقيمين في لبنان يبلغ نحو 6,825,000 نسمة  (توقعات عام 2020)..

لكن هذه الأرقام لا تغطي العدد الحقيقي لجمبع المقيمين  في لبنان والتحدي الأساسي اليوم يتمثل في كشف الحقائق والأرقام المخفية حول أعداد السكان الذين يعيشون على الأراضي اللبنانية، ويحملون جنسيات متنوّعة، لبنانيين وعرب وأجانب، وبخاصة بالنسبة للإقامات غير الشرعية من العمال العرب والأجانب، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من عديمي الجنسية والمكتومين والأطفال من أمهات لبنانيات بدون جنسية.. تضاف إليها حركة وافدين  من بلدان أفريقية تديرها شبكات تهريب متخصصة عبر الحدود، وتضم العمال المهاجرين من مصر والسودان، الذين دخلوا لبنان، قبل الأزمة السورية.
وبحسب معلومات الأمن العام اللبناني، يضم لبنان جنسيات مختلفة مكوّنة من188 دولة،   وممن لديهم إقامات صالحة أو غير صالحة، أما أعداد العرب والأجانب، وبحسب الإقامات الصالحة أو المنتهية، فيضم لبنان  نحو 350 ألف عربي وأجنبي من ذوي الإقامات الرسمية وغير الرسمية، وبخاصة من العمالة الأجنبية التي إستقدمها لبنان وفتح لها حدوده،  فتطورت وتحوّلت إلى شبكات واسعة ومنظمة كانت تتدفق إلى لبنان بواسطة وزارة العمل وعبر مكاتب الإستخدام المتعددة.
تضاف إليهم تدفقات النازحين السوريين خلال سنوات الحرب السورية، والذين يُقدر عددهم بنحو 2,5 مليون نسمة من المسجلين في سجلات المفوضية العليا للاجئين، او المقيمين دون إقامات شرعية، ممن يدخلون في قوافل التهريب عبر المعابر الحدودية غير الشرعية،  ويتبيّن وفق  هذه المعطيات أنه تم خلال سنوات الحرب السورية، تسجيل دخول 1,800,000 نازح سوري وفلسطيني حتى أيلول 2017،  دخلوا لبنان عبر المعابر الحدودية الرسمية. ولم يتم إحصاء النازحين غير الشرعيين. يضاف إليهم   نحو 450,000 لاجئ فلسطيني،  من المسجلين لدى وكالة  غوث اللاجئين “أونروا”، مع اللاجئين من مخيمات سوريا من الفلسطينيين غير المسجلين، بالإضافة إلى أعداد اللاجئين العراقيين، وبخاصة من المسيحيين الذين تم توزيعهم في مناطق مختلفة ترعاها مؤسسات دولية، وتتراوح أعدادهم  بين 30 و50ألف لاجئ.
ويتبيّن بحسب أرقام الدولية للمعلومات، أن ما بين ٦٠٠ ألف إلى ٧٠٠ ألف عامل سوري يعملون بصورة غير شرعية في لبنان، مع ١٥٠ ألف عامل أجنبي (أثيوبي ومصري وبنغالي..)، يعملون بصورة غير شرعية، و ١٠٠ ألف عامل فلسطيني يعملون في المخيمات في مهن يحصرها قانون العمل باللبنانيين.
ولأن لبنان يعيش دون تعداد للمقيمين على أراضيه، للحفاظ على التوازن الديموغرافي الهش، فقد رفض تسجيل النازحين السوريين، كما أنه لم يوافق على إنشاء مخيمات لتجميعهم كما حصل في تركيا والأردن، خشية فرض الأمر الواقع والتوطين كما حصل مع اللاجئين الفلسطينيين. وبالتالي فهو لا يملك أية بيانات حول تعداد النزوح السوري، ما عدا سجلات الأمن العام وبيانات بعض الإدارات الرسمية والبلديات التي تشارك في برامج المفوضية العليا للاجئين وبعض الهيئات الدولية..وهذا ما دفع مجلس الأمن الدولي عام 2013 إلى الطلب من لبنان إنشاء مؤسسات فاعلة لإدارة ملف النزوح.
















بناء على هذه الأرقام مجتمعة، يمكن القول أنّ عدد السكان الذين يعيشون على الأراضي اللبنانية عام 2020، بات يقارب سبعة ملايين ونصف مليون ساكن،  وهذا الرقم هو الأعلى في تاريخ لبنان، نصفهم فقط من اللبنانيين، البالغ عددهم بحسب “”مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر في لبنان” والذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي عام 2018، حيث بلغ عدد اللبنانيين المقيمين 3,862,000 نسمة..
هكذا يعتبر لبنان اليوم البلد الأول في العالم من حيث عدد اللاجئين إلى مجموع سكانه المقيمين، كما أنه البلد الأول في العالم بالنسبة لعدد اللاجئين مقارنة مع مساحة الأرض..

من هنا بدأت تتزايد المخاوف من سياسة الإندماج والتوطين  التي كانت معتمدة منذ عام 1949 لتوطين اللاجئين الفلسطينيين وإلغاء حق العودة، والتي تعتمدها المفوضية العليا للاجئين والمنظمات المشاركة اليوم، كما جرت عدة محاولات لإرغام لبنان على إعطاء وثائق وتجنيس النازحين مما يمهد لعملية التوطين، وذلك في مؤتمري برلين وجنيف (عام 2014)، ثم تكررت مجاولات التوطين في مؤتمر الأمم المتحدة في نيويورك عام 2016، وبعدها أيضاً بطلب من الرئيس الأمريكي ترامب في مؤتمر نيويورك 2017، لكن لبنان أكد على موقفه من رفض التوطين بكافة أشكاله، وهو لا زال يتحمل وحده أعباء إستضافة اللاجئين الفلسطينين على أرضه منذ العام 1948، تضاف إليها تدفقات النازحين السوريين منذ العام 2011، حتى تحولت الأراضي اللبنانية بكاملها إلى مخيم كبير يضم أكثر من 2500 عشوائية ومحلية  تتوزع في جميع القرى والمدن اللبنانية.

الوضع كارثي… تخيلوا ماذا سيحدث بعد عشر سنوات؟
لقد تم تحويل لبنان إلى خزان بشري ضخم يضم عدة ملايين من اللاجئين والنازحين والمكتومين والمهاجرين غير الشرعيين من مختلف الجنسيات،  لقد أصبح الوضع كارثي بعد مضي نحو عشر سنوات،  بينما تشير كافة التقديرات إلى أن خطة إعمار سورية تحتاج ايضاً إلى فترة طويلة لا تقل عن عشر سنوات… بينما تؤكد الأمم المتحدة أن إعادة بناء سوريا قد تتطلب نصف قرن.
ففي عام 2013، وقبل نحو سبغ سنوات،  قالت آن ريتشارد، مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، لشؤون السكان واللاجئين والهجرة، “ليس هناك الآن أي قرية أو مدينة واحدة في لبنان لم تتأثر بوجود اللاجئين السوريين”. ويعادل تدفق اللاجئين إلى لبنان الصغير تدفق 75 مليون انسان- أو ضعفي عدد سكان كندا – إلى الولايات المتحدة. وأضافت (خلال مناقشات جرت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2013 في مركز ويلسون للأبحاث في واشنطن)، “إن التزام لبنان الثابت بالمبدأ الإنساني الدولي للحماية يخدم كمثال للمنطقة”. ولكنها لاحظت أن لبنان “دفع ثمنًا باهظًا نتيجة لكرمه.”

كذلك وفي زيارة قام بها كل من المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس ومديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هيلين كلارك إلى بلدة دير الأحمر بتاريخ 16 أيلول 2014، وبعد ثلاث سنوات على الحرب السورية، للإطلاع على أوضاع اللاجئين، حيث تضم البلدة 14 مخيماً عشوائياً يأوي حوالي 5,000 لاجئ في ضواحي هذه البلدة المطلة على سهل البقاع، وحيث “تتصاعد التوترات في كافة أنحاء لبنان بين المجتمعات المضيفة واللاجئين السوريين الذين يتخطى عددهم حالياً الـ 1,4 مليون لاجئ” ، وقد صرح غوتيريس، في زيارة لأحدى مخيمات اللاجئين العشوائية قائلاً: ”لا يقوم المجتمع الدولي بالكثير من أجل لبنان. لقد تأثرت حياة اللبنانيين اليومية، ورواتبهم، وإيجاراتهم، ونظام مدارسهم، والنظام الصحي، والبنى التحتية والمياه والكهرباء. كل ذلك يتطلب تضامناً كبيراً من قبل المجتمع الدولي ومن حق لبنان أن يطلب من المجتمع الدولي مشاركته هذا العبء.“
وأضاف ”.. ما يقوم به لبنان هو مثال على الضيافة والحماية والعالم بأسره ممتن له.“ (يشار هنا أن غوتيريس قد أصبح اليوم الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك).

إذا كانت هذه حالة لبنان اليوم، وبعد فشل المبادرة الروسية المتعلّقة بعودة النازحين السوريين الى ديارهم،  فكيف ستصبح الأرقام بعد عشر سنوات أخرى؟ أو ماذا سيحدث عندما ينفجر هذا الخزان، وكيف سيؤثر هذا الحدث على لبنان؟ سيؤدي هذا إلى إغراق لبنان بالفوضى بالكامل، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية والأمنية بالغة التعقيد التي ستنجم عن ذلك والتي سوف تطال آثارها أوروبا والعالم.

* أستاذ الجغرافية ورئيس مركز السكان والتنمية

1- راجع: المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “غوتيريس وكلارك يزوران اللاجئين السوريين ويدعوان لتقديم الدعم للبنان”، في زيارة إلى سهل البقاع، يشدد رئيسا المنظمتين على الحاجة إلى مساعدة كل من اللاجئين ومجتمعاتهم المضيفة. في 16أيلول 2014.

مخاطر التغيير الديموغرافي ...وتفكك المجتمع اللبناني،

 مخاطر التغيير الديموغرافي

وتفكك المجتمع اللبناني،

مقابلةد. علي فاعور: مع الإعلامي الأستاذ Abbas Mohammed Zalzali، تلفزيون NBN.tv يوم 22 كانون الأول 2020.
معطيات إحصائية حديثة حول عدد سكان لبنان وتأثير الهجرة والتحوّلات الديموغرافية وشيخوخة السكان. الرابط لمن يرغب مشاهدة الحلقة.