Saturday, December 19, 2020

،"أدمغةُ تبحث عن "حلم بديل..لبنان «يهجّر» أبناءه.. مقابلة مع الإعلامية زيزي أسطفان نشرت في صحيفة الرأي الكويتية بتاريخ 9 كانون الأول 2020

  ،"أدمغةُ تبحث عن "حلم بديل

 لبنان «يهجّر» أبناءه




مقابلة عبر صحيفة الرأي مع الصحافية زيزي أسطفان في 19 كانون أول عام 2020..

د. علي فاعور


بيروت - من زيزي اسطفان:

19 ديسمبر 2020   

في قلوبِ أمهاتِ لبنان سَيْفٌ مَغروزٌ يقطر دماً وألَماً وفي وجدان الآباء حرقةٌ مكبوتةٌ تلْتهم ما تبقّى من فرحة العمر. على ألسنة الجميع تَساؤلٌ واحِدٌ: لماذا يرحل أبناؤنا؟ لماذا يغادرون وطناً لم يعُد قادراً أن يكون لهم وطناً وملجأً وحاضراً ومستقبلاً؟ لماذا نُحرم من فلذات أكبادٍ دفعنا جهداً وشقاء وعمراً لنراهم يكبرون أمام عيوننا فإذ بهم يُهجّرون من وطنهم ويُدفعون عنوة للرحيل والهجرة؟ هل هذا هو قدَر الشباب في لبنان؟ أن ينتشروا في أصقاع الأرض بحثاً عن وطن؟ وهل هذا مصير العائلات أن تتشتّت وتنفطر قلوبها شوقاً لمَن غابوا ويأساً لمَن بقوا؟ إنها الهجرة تقرع باب اللبنانيين من جديد بدقّات أقوى وأشدّ وقعاً من أي وقت.

لطالما عرف لبنان موجاتٍ من الهجرة منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت تشتد وتيرتُها أو تخفّ بحسب ظروف هذا البلد الأمنية والاقتصادية والسياسية. وعرفت الهجرةُ أوجها إبان الحرب الأهلية اللبنانية التي شكلت عاملاً رئيسياً للهجرة المُغادِرة. واعتبرت مجلة الدفاع الوطني اللبناني في دراسة لها أن هجرةَ اللبنانيين إلى الخارج، التي لم تتجاوز عشرة آلاف نسمة في الأعوام الخمسة السابقة لاندلاع الحرب، وصلت إلى نحو خمسين الف نسمة سنوياً في الفترة الممتدة بين 1975 و 1980.

وأشارت الدراسة إلى أن حجم المهاجرين اللبنانيين وصل الى نحو 900 ألف نسمة عام 1990 ليبلغ مليوني مهاجر على الأقل خلال الربع الأخير من القرن العشرين وإن تكن الأرقام تختلف بعض الشيء بين دراسة وأخرى.

أزمات متراكمة وفقراء يستضيفون فقراء

ولكن هذه الأرقام على فداحتها تبقى مقبولة نسبياً بالمقارنة مع ما يشهده لبنان اليوم وما يُتوقّع له في السنوات المقبلة إذا استمرّت الحال على ما هي.

«الراي» التقتْ د. علي فاعور، وهو الخبير والمستشار والأستاذ الجامعي والمرجعية الموثوقة في ما يختص بالأرقام والحقائق حول سكان لبنان وممثل لبنان في العديد من المؤتمرات الدولية حول السكان والمدن والتنمية الاجتماعية، لتقف منه على ما وصلت إليه الحال الاجتماعية في لبنان ومسببات الهجرة المتزايدة.

يقول د. فاعور «إن 2020 من أسوأ السنوات التي مرّت على لبنان منذ الحرب الأهلية، فقد شهدت أسوأ الكوارث مع انفجار مرفأ بيروت (4 اغسطس) الذي تَرافَقَ مع انهيارٍ للعملة وانتشارٍ حاد للفقر بحيث تحدّثت الهيئات الدولية عن نسبة فقر راوحت بين 50 الى 60 في المئة قبل الانفجار، وارتفعت بعده الى نسبة تعدّت 70 في المئة. وأدّت أزمة»كورونا«وإقفال البلاد تكراراً الى تداعياتٍ ثقيلة لأن أكثر من 80 في المئة من سكان لبنان يعملون في قطاعات هامشية غير مستقرّة من دون راتب ثابت أو تغطية صحية، الأمر الذي أدى مع الإقفال الى ارتفاعِ نسبة الفقر».

ومع أزمة النازحين السوريين والتي بات يصح بإزائها القول إن فقراء يستضيفون فقراء، ازدادتْ الأعباء على كاهل الوطن الصغير، الذي انزلق تحت وطأة «العاصفة الكاملة»، مالياً واقتصادياً ونقدياً ومصرفياً واجتماعياً، إلى وضع أسوأ بكثير مما كان عليه خلال فترة الحرب الأهلية، وسط الوقوع بين «أنياب» التضخم المفرط وانهيار الليرة وفقدان 80 في المئة من القدرة الشرائية عند الناس وهو ما أدّى الى ارتفاع نسبة الهجرة وأعداد المهاجرين.

الهجرة خطر وجودي على لبنان

ويؤكد د. فاعور «أن أعداد المهاجرين العام 2018 كانت في حدود 40000 مهاجر لترتفع في 2019 الى أكثر من 60000 وتتفاقم أكثر في 2020 رغم عدم وضوح الأرقام بعد. ولكن بحسب حركة المطار فإن الأرقام خطيرة جداً ويمكن للرقم السابق أن يتضاعف حتى نهاية السنة. ويُتوقع لعامي 2021 و 2022 أن يهاجر تقريباً 4 في المئة من سكان لبنان أي ما يعادل 150000 شخص سنوياً وخصوصاً أن أبواب العمل شبه مقفلة وسوق العمل لا يستوعب اكثر من أربع الى خمسة آلاف من الخرّيجين الذين يبلغ عددهم سنوياً نحو 35000 طالب. وهذه الأرقام شبيهة بموجات الهجرة التي شهدها لبنان بعد الحرب الأهلية خلال الأعوام بين 1991 و 1993، حين كان اللبنانيون يهاجرون حينها بحثاً عن وطن».

وكأنه مكتوبٌ على لبنان الذي خسر جيلاً بأكمله بعد الحرب أن يعود ليخسر جيلاً جديداً في هذه الأزمة. فالرغبة في الهجرة مع نهاية هذا العام المشؤوم على أشدها وكذلك طلبات الهجرة تملأ السفارات، ولكن ما يحدّ منها هو عدم قدرة الراغبين بالمغادرة على تأمين الأموال الكافية للحصول على بطاقة سفر أو المتطلبات المالية الكافية للرحيل، وهذا ما يفسر من جهة أخرى زيادة نسبة الهجرة غير الشرعية من المناطق الفقيرة عبر قوارب الموت. وتزداد طلبات الهجرة مع فتح كندا أبوابها للمهاجرين وكذلك ألمانيا وفرنسا واستراليا. وقد تبيّن أن فرنسا تتقدّم في لائحة طلبات الهجرة وتليها السويد وإيطاليا.

وما يحزّ في القلب ويرسم صورة مأسوية للوضع أن النسبة الأعلى للمهاجرين هم بين 20 و 44 من عمرهم أي فئة الشباب المنتجة. وتتجلى فظاعة الصورة حين ندرك أن ما بين 300 و 350 طبيباً لبنانياً من أصحاب الكفاءات العالية هاجروا الى الخارج ليرتفع عدد الأطباء اللبنانيين الذين يعملون خارج وطنهم الى نحو 5000 طبيب، ولا سيما أن غالبيتهم يحملون جنسيات البلدان التي درسوا فيها، تاركين القطاع الصحي في لبنان في أزمة حقيقية. وإليهم تضاف هجرة المهندسين وأساتذة الجامعات والإعلاميين، أو ما يعرف بهجرة الأدمغة، التي ستكون لها انعكاسات قاسية جداً على الوضع الاقتصادي وعلى دور لبنان الصحي والتعليمي.

ويؤكد د. فاعور عبر دراساته أن الهجرة المستجدة ستترك خللاً كبيراً على التركيبة السكانية في لبنان تكون له انعكاسات كارثية. فتراجُع النمو السكاني الى 3.6 في القرى و 3.5 في بيروت مع زيادة نسبة الهجرة الى معدّلات غير مسبوقة وتَوَقُّع رحيل 4 الى 5 في المئة من سكانه، بات يهدّد بتغييرِ وجه لبنان ويضعه في خطر وجودي حقيقي وخصوصاً بوجود أعداد هائلة من غير اللبنانيين المستعدّين للحلول محلهم، وقد بدأوا ذلك بالفعل لتصبح غالبية سكان لبنان من غير اللبنانيين. وما يزيد من طين الأزمة بلة أن لبنان يفتقر الى الاحصاءات الصحيحة حول تعداد سكانه والمقيمين فيه، في غياب مقصود للأرقام يجعله خزاناً بشرياً يضمّ خليطاً غير متجانس من السكان مع فشلٍ شبه تام للسلطة السياسة في إدارة موارده الإنسانية والبيئية.

أرقام صارخة ولا مَن يسمع

أرقامٌ تقرع ناقوس الخطر وهي كفيلة بإحداث خضة في جسم الدولة اللبنانية المتهالكة، ولكن يبدو أن لا حياة لمن تنادي وان الطبقة السياسية ومسؤوليها باتوا في حالة موت سريري، و إلا لكانوا بادروا الى البحث عن حلول تقي لبنان من براثن الخطر الداهم الذي يتهدد وجوده وكيانه كدولة ويلتهم أحلام أبنائه ويحولهم موتى أحياء ينتظرون فقط أن تدق ساعة الرحيل التي تحملهم إما الى بلدان أخرى أو تعبّد طريقهم نحو... جهنم.

ولكن بعد هذه الصورة الداكنة الشديدة السواد يبقى التساؤل الأهم: هل يمكن عكس هذا الواقع واستعادة لبنان لأهله وشبابه؟ الإجابة بسيطة وسهلة تتلخص باستعادة الثقة المفقودة بين الناس ودولتهم. فمتى عادت الثقة عادوا... و بنوا ورمموا ما دُمّر. وحدها صحوة ضمير عند المسؤولين ودراسات جدية للواقع السكاني في لبنان كفيلة بحفظ كيانه وصون وجوده.

وداع الأحبة خبز لبنان اليومي

بعيداً عن جمود الأرقام و تعبيرها الجاف تبقى دموع الأمهات وغصة الآباء أصدق تعبير عن مشاعر الألم والخوف والغضب التي تعتمل داخلهم، فهم يودّعون يومياً شاباً أو صبية سدّت أبواب المستقبل في وجوههم فوجدوا في الانسلاخ عن أهلهم وأحبّائهم وذكرياتهم ووطنهم الحلَّ الوحيد نحو مستقبل واعد.

دموع تحترق في مقلة الأهل من دون أن يتركوا لها العنان لتسيل على الخدود حتى لا تكون عائقاً أمام رحلة البحث عن مستقبل أفضل لمن يفضّلونهم على أنفسهم، يتركونها تحفر في كيانهم أخاديد عميقة لا يزيدها الوقت إلا عمقاً وألماً. فوداع الأحبة بات خبزاً يومياً عند العائلات اللبنانية على اختلاف أطيافها مقتدرة وفقيرة، مسلمة أو مسيحية، من المدينة أو الأطراف. وقد عبّرت الفنانة نانسي عجرم في الفيديو كليب الأخير الذي أطلقته لأغنية «الى بيروت الأنثى» من كلمات الشاعر الكبير نزار قباني عن هذا الوجع الذي يفتك بأفراد العائلة ويفتت قلبها مع وصول التاكسي الذي يحمل الابن الى المطار ليقلب صفحة الوطن ويبدأ رحلة البحث عن وطنٍ جديد و... «حلم بديل»

https://www.alraimedia.com/article/1513032/أخيرة/أخبار-منوعة/-لبنان-يهجر-أبناءه?fbclid=IwAR2aKbo1vonF-vq2_Jt54NYfDcSvz3s1T-7-wJ-CQ5tyaEfWGkq6zt7xEDYa