Showing posts with label Population explosion in Lebanon. Show all posts
Showing posts with label Population explosion in Lebanon. Show all posts

Monday, November 27, 2023

أضواء على ديموغرافيا انتخابات العام 1992، د. علي فاعور: كيف توجه الديموغرافياالانتخابات وتتحكم بنتائجها

 أضواء على ديموغرافيا انتخابات العام 1992، د. علي فاعور: كيف توجه الديموغرافياالانتخابات وتتحكم بنتائجها

مقالة نُشرت في مجلّة العواصف بتاريخ يوم الجمعة 7 آب 1992 بعنوان "ديموغرافيا انتخابات 1992".. ونعيد نشرها اليوم بعد أكثر من 30 سنة، وذلك لتبيان هشاشة البنية السكان، والمصالح السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، مما أدى بمرور الزمن الى انهيار الدولة نتيجة فشل السلطة الحاكمة وانتشار الفساد.. واستمرار الفراغ السياسي القائم..ما ادى الى تفكك البنية الديموغرافية وتزايد موجات الهجرة الخارجية، والخلل الديموغرافي الناجم عن تزايد أعداد اللاجئين والنازحين الذين بات عددهم يقارب نصف السكان المقيمين في لبنان اليوم..






" بعد مرحلة الحرب اللبنانية (1975-1990)، بدأ التحضير لإجراء الانتخابات النيابية، وهذا يتطلب تحضير لوائح قيد السكان موزعة بحسب المناطق والتقسيمات الادارية..وهذا أيضاً يضع الجميع أمام إشكالية توزيع السكان سواء بالنسبة لقيد النفوس، وأصوات الناخبين، أو بالنسبة للمقيمين والمهاجرين في الخارج، او المهجرين في الداخل، وكان الاقتراح المتداول للبحث عام 1992، هو اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة للخروج من معضلة التوزع السكاني، وبخصة توزيع الطوائف بحسب المناطق..."

وفيما يلي النص الاساسي للمقالة المنشورة في 7 آب/اغسطس 2019.

د. علي فاعور في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.


Friday, July 28, 2023

 

 دور الوسط الإنساني في إعمار بيروت

 تأليف الدكتور علي فاعور أستاذ جغرافية المدن في الجامعة اللبنانية

دراسة نشرت في جزيدة النهار كانون الثاني عام 1994، ومنشورة في كتاب "آفاق التحضّر العربي"، دار النهضة العربية صفحة 521-537، عام 2004.



مقـدمـة

بعد سنوات الحرب الطويلة يتجه لبنان اليوم نحو مرحلة جديدة تستوجب التخطيط لإعادة الإعمار ومحو آثار الحرب، وبعد استعادة الدولة للمرافق الحيوية والمؤسسات العامة، تتجه الأنظار الآن نحو تحسين مستوى المعيشة وتدعيم الوضع الاقتصادي ثم توفير الخدمات الاجتماعية للسكان.

وإذا كانت الحرب قد كبدت لبنان خسائر فادحة تمثلت بالدمار الذي أصاب البنية التحتية والمصانع والمدارس والمستشفيات والمساكن والأبنية الحكومية، تضاف إليها خسارة الموارد المالية والبشرية وهجرة الشباب إلى الخارج مما أدى  إلى  انخفاض الدخل  الفردي  وانتشار البطالة .

أمام هذا كله تبدو المعالجات ضرورية وهي تتطلب برنامج إعماري إنمائي لتحقيق النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل وتأمين الخدمات الاجتماعية، وهذا ما يتم التحضير له عبر خطة النهوض الاقتصادي أو برنامج العام 2000. وما يجب الاعتراف به أن المعالجات والخطط المرسومة ومهما كانت فعاليتها فهي لن تؤمن الحلول السحرية السريعة التي ينتظرها الناس وذلك بالمقارنة مع ارتفاع أكلاف المعيشة، وتراكم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وأبرزها تهجير حوالي 900 ألف ساكن ينتظرون العودة إلى بيوتهم.

لقد بدأت الأحداث في بيروت واستمرت متواصلة طيلة ستة عشر عاماً، أدت إلى تدمير وسط المدينة وتفتيت النواة المركزية فيها، ثم تقسيمها وتهجير سكانها. وهي تبدو اليوم مدينة "مجوّفة" تعيش في فراغ لأنها موزعة في مدينتين تتوسطهما مراكز إدارية وتجارية متعددة، تبدو كنوى ثانوية تتحرك حول نفسها لأنها تفتقر إلى " النواة النووية" المتواجدة في المركز.

ويستحيل اليوم أن تستعيد العاصمة دورها وموقعها وتؤدي وظائفها قبل إعادة الحياة إلى وسطها، لأنه بالفعل قلب المدينة، كما لا يمكن لهذا الوسط أن يستمر ملجأ ومأوى للمهجرين الفقراء الذين حولوا الأبنية إلى أكواخ حقيقية. وهذا يؤكد أن إعادة المهجرين مسألة مرتبطة بالخطة الموضوعة للإعمار والإنماء والتي يجب أن تنطلق من وسط العاصمة في برنامج متكامل يربط بين المدينة وإقليمها وريفها.

ويتضمن هذا البحث النقاط الآتية:

1 - إعمار بيروت أمام عنصر الإدارة والتاريخ

2 - لماذا إعمار الوسط التجاري؟

3 - الوسط الاجتماعي في المدينة.

- توفير الحياة في وسط المدينة.

- أهمية التوافق الاجتماعي.

4 - لا مدينة دون نواة قادرة على التوحيد.

5 - دور وسط المدينة التجارة والسياحة.

6 - ماذا نبني في الوسط ؟

 

1 - إعمار بيروت أمام عنصر الإرادة والتاريخ :

يقال الكثير اليوم عن بناء وسط المدينة التي دمرتها الحرب، ويتفاوت الكلام بين موقع وآخر، بل لكل واحد طريقته وأهدافه المرسومة في تناول هذا الموضوع، ولأننا نقف الآن أمام "ولادة المدينة" بأشكال جديدة وتطورها في مرحلة تاريخية حاسمة، ولأن وسط المدينة هو وجهها الحقيقي وهو مكان التقاء الجميع فقد بات لزاماً على الجميع التعامل بموضوعية وتجرد.

وبعيداً عن موضوع الربح والخسارة فإن إعمار المدينة هو الهدف الأساسي لعودة الحياة إليها. فقد استمرت بيروت مقسمة بين غربية وشرقية طيلة عقدين من الزمن، وهي لم تتخل عن دورها برغم هذا الواقع لكنها فقدت وظيفتها الأساسية في توحيد اللبنانيين فأفسحت المجال في تنظيم الضواحي على حساب الوسط الذي دمرته الأحداث.

فالمدينة هي في الأساس مخلوق حي وهي كما يقول الجغرافي الشهير بيار لافدان ككل مخلوق حي تولد وتكبر وتموت، إن دراسة مسألة النمو المديني والتطور وأحياناً الزوال أو الموت للمدينة يشكل الأساس اللازم في علوم المدن ذلك أن عوامل تطور المدينة كثيرة متنوعة ومعقدة وجميعها يمكن حصرها في قوتين كبيرتين : الطبيعة والإنسان.

وإذا كانت الطبيعة تحضّر الموقع كما يقول فيدال دي لابلاشن فالإنسان ينظمه ليتمكن من تحقيق رغباته وتأمين حاجاته ويجب أن نميّز في تكوين المدينة بين ثلاثة عناصر وهي: عنصر التكوين (أو الشكل) عنصر التطور وعنصر الزوال.

لقد دُمرت معظم المدن في التاريخ نتيجة حروب ضارية وعلى أيدي "السكان المتمدنين"، وكأن قوة خفية تمثل في "رغبة التدمير" تدفع المهاجرين لمحو الآثار الحضارية لأخصامهم، وذلك للتأكد من الانتصار عليهم وهزيمتهم، هذه الواقعة تمتد من مدينة جرش إلى بنوم بنه، ومن طروادة حتى هيروشيما، وذلك دون أن ننسى المدن التي دمرت في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.

مدن دمرت ثم عادت إلى الحياة لتتابع دورها مما يؤكد أن تطور المدن يعتمد أيضاً على التاريخ، وفي تاريخ المدن دور للإرادة الإنسانية وهذه حالة بيروت كمدينة ذاتية النشأة Spontanée ، واجهت قدرها عبر مراحل تاريخية حاسمة، وكانت أبداً مدينة مميزة وحالة فريدة في مواجهة النكبات التي عرفتها فمنذ حوالي 2000 سنة وبالتحديد عام 143 ق.م. أُحرقت بيروت وتم تهديم مبانيها وتحولت إلى خراب فخلت من سكانها الذين تهجروا عنها وسكنوا بمحاذاة البحر، كما أُصيبت المدينة بهزات أرضية عنيفة خصوصاً بين عامي 551 و 555 م. فتهدمت مبانيها وتحولت إلى خراب.

كما عرفت المدينة الكثير من الويلات أيام البيزنطيين والصليبيين، وعانى سكانها من وباء الطاعون عام 1797، كما صمدت المدينة بوجه الهجمات الحربية فتعرضت للدمار والخراب عشرات المرات، وفي حقب متفاوتة لكنها صمدت واستمرت تقاوم بل إنها بفعل الإرادة كانت تزداد قوة كلما ازدادت عليها النكبات.

وإذا كان موضوع الحتمية الجغرافية determinisme géographique قد أثير مراراً في دراسة مستقبل المدن وتاريخها، كما كثر الحديث في بعض المراحل عن مسألة القضاء والقدر Predestination . وإذا كان فهم الماضي واستنطاقه يتم بواسطة بعض الأمثلة والنماذج التاريخية المختارة، فإن حالة بيروت تؤكد عامل الإرادة في بقاء المدينة ودور الإنسان في نموها أو زوالها.

ومن ينظر في خريطة بيروت يرى أنها نشأت كمدينة بحرية وفي موضع طبيعي يبرز كنتوء جبلي Promontoire ، يمتد في البحر ويسمى رأس بيروت وهو عبارة عن رصيف بحري Plate forme مثلث الشكل تبلغ مساحته حوالي 60 كلم2 ويجاور هذا الموضع من الشمال خليج بحري واسع يحتل مرفأ بيروت قسمه الجنوبي المحاذي للساحل، وهو ميناء مثلث الشكل تصل أعمق نقطة فيه إلى حوالي 17 متراً ويحميه من الغرب حاجز ضخري عمقه نحو 1297 متراً، أما بالنسبة لمستوى السطح في المدينة فيظهر أن أكثر المناطق ارتفاعاً إلى حوالي 100 متراً وتقع في تلتي الأشرفية والرملة البيضاء وإلى حوالي 80 متراً في تلة رأس بيروت.

أما وسط المدينة فهو يمتد في شمالي هذا الموضع، كمنطقة متدرجة منفتحة على البحر وهي التي مثلت النواة الأولى في مركز المدينة ونموها حتى عام 1875م. هذا التحديد يبرز أهمية الموقع الجغرافي في ولادة بيروت لكن تتابع الأحداث يؤكد دور الإنسان عبر الأزمات التي واجهتها المدينة، وهي اليوم تتهيأ لولوج مرحلة جديدة حيث يتم التحضير والتخطيط لإعادة بناء الوسط المديني لتستعيد بيروت دورها وموقعها.

نستخلص أن مستقبل المدينة يتوقف على طريقة تعامل الإنسان مع المجال الجغرافي، فالطبيعة، حيث مكان نشوء المدينة، تبدو كآلة موسيقى، يتعامل معها الإنسان على طريقته وهواه، وهو قد يحصل أحياناً على موسيقى متناسقة بشدة harmonieuse، وأحياناً أخرى متنافرة discordance، وهذه حالة المدن أو وسط المدن المخلوقة villes crées حيث يعج بعضها بالحياة والحركة، بينما يبدو البعض الآخر كصحراء مملة، أو كسجن للنفس، يتحين الناس الفرصة للخروج منه في المناسبات.

إن السنوات المقبلة ستحدد مستقبل بيروت وهو يرسم اليوم في وسط المدينة من خلال المخطط التوجيهي للمنطقة التجارية المركزية، والذي يتم تحضيره للمرحلة القادمة.

 

2 لماذا إعمار الوسط التجاري؟

        في إطار التخطيط لإعادة الإعمار ومحو آثار الحرب، يحتل الوسط التجاري لمدينة بيروت اليوم مركز الصدارة بين المشروعات التي تتطلب الاهتمام والمتابعة. وإذا كان "التاريخ ما زال يكتب في قلب المدن" وهي حقيقة ثابتة في نشوء المدن وتطورها، فإن مرحلة جديدة تبدأ الآن في حياة مدينة بيروت التي دمرتها الحرب، مما يستوجب إعادة إعمار وسط المدينة لتعود الحياة إليها وتستعيد وظائفها الاقتصادية والاجتماعية كمركز للتعامل ومكان التقاء بين اللبنانيين.

        هكذا فإن دراسة منطقة الأعمال المركزية، المعروفة باسم الوسط التجاري، تعتبر مسألة أساسية في خطة الإعمار، وذلك للأسباب الآتية:

        1 يحتل الوسط التجاري من حيث موقعه قلب العاصمة، وهو يمثل بالنسبة لإطار المدينة "النواة النووية" ومركز الثقل الرئيسي فيها، ومن ثم فهو ذلك الجزء الذي تتمركز فيه مختلف الأنشطة والخدمات.

        2 يعتبر الوسط التجاري المنطقة التي تعرضت أكثر من غيرها لأعمال التهديم والدمار، وقد أدى تدميره إلى فقدان العاصمة دورها العالمي والكثير من وظائفها نتيجة تفتت المنطقة التجارية المركزية.

        3 يمثل وسط المدينة على الصعيد الاجتماعي مركز الالتقاء بين اللبنانيين الذين فرقتهم الحرب، وهو أيضاً مكان التبادل والتواصل بين الناس من مختلف المناطق، مما يؤكد أن إعمار الوسط التجاري هو الخطوة الأولى لإلغاء الانقطاع الحاصل نتيجة تعطيل المركز، وتأكيد لإعادة توحيد العاصمة بيروت.

        4 إن إعمار وسط العاصمة هو تمسك بالتاريخ الحضاري للمدينة، وذلك في الحفاظ على المعالم الأثرية فيها وإبرازها لتكون سجلاً يؤكد أن التاريخ ما زال يكتب في قلب المدن.

- إن إعمار الوسط التجاري يجب أن يترافق مع خطة واضحة الأبعاد لإعمار الأحياء المتضررة في بيروت الكبرى، بحيث أن التصميم والنظام التوجيهي العام للوسط، لا يمكن أن ينفصل عن النظام التوجيهي الشامل لمدينة بيروت الكبرى، وذلك للترابط في العلاقات بين الوسط ومحيطه. ويستدل من التصاميم الموضوعة لإعمار الوسط والدراسات المرفقة أن المخطط التوجيهي لهذه المنطقة ليس منفصلاً عن النظام التوجيهي الشامل الذي وضع في العام 1986، والذي رسم الخطوط الرئيسية لتخطيط بيروت الكبرى الممتدة من نهر الكلب حتى نهر الدامور، وحتى ارتفاع 400م شرقاً. وقد حدّد هذا التصميم، إضافة إلى الوسط التجاري أربعة مراكز جديدة للنشاط الاقتصادي، وهي: نهر الموت، الحازمية، الضاحية الجنوبية، وخلدة. تضاف إليها مراكز تجارية ثانوية موزعة في الأحياء المحيطة بالوسط التجاري.

5 إن إعمار وسط المدينة ومركز الأعمال الرئيسي فيها يجب أن يترافق مع خطة شاملة متكاملة، وبرنامج إعماري إنمائي متوازن، وذلك تحقيقاً لمبدأ الرغبة في المساواة المكانية، وهي بمثابة تعبير عن العدالة الاجتماعية بعد سنوات الحرب الطويلة في لبنان، ذلك أن الحساسية التي تولدت ونمت حول مسألة المساواة والعدالة، انتقلت من الاجتماعي إلى المكاني مع بروز حدة التفاوت بين الفئات الاجتماعية والغاية هي تحقيق التوازن الأفضل بين المناطق المكوّنة للأراضي وبين المدن والأرياف.

ومن الضروري الإشارة إلى وجود اتجاه يعارض "هيمنة المدينة"، وهو يعمل للتخفيف من امتيازاتها وذلك في محاولة لخلق تنظيم آخر للأراضي معارض للمكان المديني ولا يخضع أبداً لازدواجية المركز والأطراف، بل بالتنسيق والتعاون بين الأماكن المدينية والأقاليم. ويعزز هذا الاتجاه الاختلال البارز في التوزيعات المكانية للسكان حيث تتواصل موجات النزوح الريفي نحو العاصمة التي تضم وحدها اليوم، حوالي نصف سكان لبنان يعيشون في رقعة ضيقة من الأرض تقل مساحتها عن واحد في الماية من مساحة لبنان.

 

3 الوسط الاجتماعي في المدينة:

        تبحث هذه الدراسة في محاولة تحديد موقع الوسط الاجتماعي في المدينة من خلال رؤية شاملة تنظر في مختلف الاتجاهات، وترتكز إلى الوسائل التي توفرها مختلف الاختصاصات، من علم الاجتماع إلى الجغرافيا والتاريخ والآثار وعلم الاقتصاد وعلم النفس...

        وذلك بهدف التنسيق بين مختلف المجالات وإيجاد الترابط في العلاقات المكانية القائمة في الوسط، ذلك أن المدينة هي في الأساس مكوّنة من أفكار أكثر منها أحجار أو باطون، كما أن المشاهد البارزة في مورفولوجية المدينة هي حصيلة التقاء عدة عناصر متعددة الزوايا ومختلفة الأبعاد، مكوّنة ومؤثرة في المكان.

        - توفير الحياة في وسط المدينة: كذلك فإن بناء الأفكار والأحجار لا يمكن أن تصنع وحدها مدينة حيّة، إن غالبية المخططات تهمل المشاعر والأحاسيس عند الناس، فتبدو المدينة جامدة دون حياة، ذلك أن قساوة الزوايا القائمة في الأبراج العالية، والواجهات اللزجاجية الباردة، ثم الألوان الفقيرة في المخازن واللمجسمات والأبنية، تكاد لا تضاهي بهجة الشوارع الضيقة الملتوية في الأسواق القديمة المسقوفة، ولا تعوّض سحر الواجهات الخشبية الدافئة التي تلهم المخيلة وتجذب السواح في أزقة المدن العتيقة، حيث تمتليء المدينة بالحيوية وتعج بالحرجة. إن ما يهم زائر المدينة ليست الأشكال الهندسية ولا المشاهد المدينية المنظمة بل الإيحاءات التي تصدر عنها وتثيرها لديه، ثم الآثار الناجمة عنها والتي تبقى في ذاكرته.

        إن الإنسان يتعامل مع المدينة بحواسه وأحلامه، وهو في الأساس يعيش فيها كشاعر.. فالموضوعية المورفولوجية تهم الاختصاصيين وحدهم (علماء التاريخ والآثار...) لكن إضافة علامة مميّزة في الشارع أو الساحة، ربما تلفت انتباه الناس وتشعرهم بوجودهم، بل إن المشاهد المدينية الغنية بهذه العلامات الثقافية أو النفسية هي التي تزيد من ارتباط الإنسان بالمدينة، وتساعد في رسم مستقبلها.

        - أهمية التوافق الاجتماعي: إن الآلة المدينية الضخمة، وبرغم تزايد عدد سكانها واحتكارها الوسائل التكنولوجية المتطورة، تظهر في النهاية وكأنها معرضة للزوال وسريعة العطب، وعملها يتوقف على تنظيم دورة الحياة اليومية فيها، بل إن قوتها تتأمن من خلال توفير الطاقة وتأمين التموين والتوافق الاجتماعي.

        إن التوافق الاجتماعي يجب أن يتأمن في المدينة، وهو يمثل صمام الأمان لضمان استقرار الحياة المدينية، وهذا يستوجب توفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية وتأمين فرص العمل، ومحاربة الفقر، وهي الشروط التي تضمن مستقبل المدينة وتؤمن الحماية لها لتفادي الأزمات الاجتماعية، لقد أنهى ماكنماره تقريره للبنك الدولي عام 1975 بهذه العبارة "إذا لم تواجه المدن وبدون تأخير، وبطريقة بناءة مسألة الفقر، فإن هذه الأخيرة سوف تلغيها".

        إن المنحى الاجتماعي في دراسات المدن يدفعنا لاعتماد التخطيط الموضوعي في مسألة الإعمار، مما يستوجب العناية بالوسط الإنساني لتحصين الخطة، وتوفير كافة مقومات النجاح لبرنامج إعادة إعمار الوسط المديني في بيروت، ذلك أن التفاوت البارز في معظم المدن بين الترف والإنفاق والاستهلاك الزائد من جهة، والبؤس وإنتشار الفقر بين الأغلية من جهة أخرى، ظاهرة غير مقبولة وغير محتملة في حال توسعها، وهي تشكل دافعاً ومحرضاً على العصيان والثورة.

 

4 لا مدينة دون نواة قادرة على التوحيد:

        هكذا تبرز أهمية إعمار وسط المدينة، وإذا كانت الدراسة تستوجب البحث في مختلف الزوايا، فالأولوية تبقى للتركيز على أهمية المجال الاجتماعي المتمثل بوجود الإنسان في المدينة.

        أليست دراسة المدينة هي معرفة كيف يجتمع الناس في الوسط الإنساني، وكيف يتعاملون؟ وما هي حدود البيئة الاجتماعية والمحددات التي تفرض نفسها في تركيب الوسط المديني؟

        ذلك أن دور المدينة يتغير ظاهرياً مع تطور المجتمعات، لكنه يتمثل حتى الآن في تجمع وسطي يمتد بين الأفراد والجماعات المحلية من جهة والبيئة الخارجية من جهة أخرى، والمدينة الحالية ذات أبعاد مختلفة جداً بالنسبة للسكان والمساحة، إذ يمكن أن تتجمع حولها أحياء واسعة، فتتحول إلى تجمع مديني ضخم كما هي الحال في بيروت، ولكن مهما اتسعت مساحة الضواحي المحيطة فلا يمكن أن توحد مدينة سوى بوجود نواة قادرة على التوحيد والسيطرة، نواة منظمة لتؤدي دورها في التنسيق والجميع بين الأطراف.

        وهذا يقودنا إلى محاولة تعريف المدينة كمجال مشترك مفتوح أمام الجميع للالتقاء والتعايش، بل وأيضاً ميدان للصراع والتنافس الاقتصادي والاجتماعي، وهي تمثل نواة حية ومركز جذب في مواجهة المراكز والتجمعات المدينية والريفية.

        كذلك فإن المدينة طريقة معينة لاستخدام الأرض، بل إنها تبدو من حيث النشأة والتكوين كإسقاط في مكان محدّد للشروط الطبيعية والبشرية والمحددات التاريخية، وهي مركز تلاقي القوى الاقتصادية والسياسية حيث تتجلى وسائل التقدم التكنولوجي والعبقرية الخلاقة والمبدعة للمهندسين في ابتكاراتهم، تضاف إليها تجارب وعادات السكان في تعاملهم مع الوسط المديني.

 

5 دور وسط المدينة التجارة والسياحة:

        إن ما يهم الإنسان في وسط المدينة هو المجال الذي يؤمن له الراحة في التنقل والعمل والسكن والتسوّق، والالتقاء بالآخرين، وهذا يتطلب وجود توازن في تركيب المدينة وذلك من خلال الانسجام والترابط بين المساحات الحرة والمساحات المبنية، بل إن نجاح مخطط إعمار الوسط المديني يرتكز إلى طريقة استخدام الأرض، ثم تطوير العنصر المحرّك في البنية، بحيث يؤمن المخطط مساحات خضراء كافية لتوازن البيئة بالإضافة إلى مساحات حرة عامة وخاصة، تشمل الشوارع والساحات والحدائق للتنزه والراحة.

          وهكذا فإن وضع التصميم والنظام التوجيهي العام في وسط المدينة قد ارتكز إلى تحديد الوظائف ومراعاة توزيع الأنشطة المختلفة وذلك كما يأتي:

 

        - بالنسبة للوظيفة التجارية: أن يستعيد الوسط دوره في الحركة التجارية، خصوصاً وأن التجارة تعتبر من أهم الوظائف التي تجذب السكان والمؤسسات، وسوف يستوعب الوسط مؤسسات بيع الجملة والمخازن الفردية، والمؤسسات المالية كالبنوك ومحلات الصيرفة والتأمين.

        وبهدف إيجاد الترابط بين هذه الأنشطة فقد تم في وضع المخطط التوجيهي مراعاة التنوّع والتوزيع المكاني لمراكز الأعمال التجارية والمصرفية، والاستيراد والتصدير، وبموازاة المخازن التجارية الكبرى والحديثة، سوف يعاد بناء الأسواق القديمة، مع الحفاظ على بنيتها وشوارعها الضيقة، وطابعها العمراني المميّز، كأماكن للتسوّق والتسلية للزوار والسائحين. وقد ميّز التصميم في الأسواق بين مجموعتيْن:

- الأولى وتتألف من أسواق: الطويلة، أياس، الجميّل.. وهي تتوزع متجاورة، وسوف يتم إعادة إعمارها في مكانها وفق الأشكال التي كانت عليها، مع مراعاة المتطلبات العصرية للخدمات.

- الثانية وتتألف من أسواق: النورية، سرسق، الصاغة، أبو النصر.. وقد لحظ التصميم إدخال بعض التعديلات عليها لإضفاء الطابع الشعبي، وتشجيع عودة تجار الأسواق إلى الوسط.

        وهذا يؤكد على التوزيع الوظيفي الهرمي للأعمال التجارية، مع مراعاة طرق وعادات التسوّق المتمثلة بتردد الزبائن لشراء حاجاتهم من المؤسسات وذلك بطريقة قد تكون يومية أو أسبوعية أو شهرية.

        كما شملت الدراسات احتمالات استخدام السيارة لأعمال التسوّق حيث تم تخطيط مواقف في المراكز التجارية وتجهيزها لتفادي مشكلات السير والأزمات الناجمة عنها. وقد أدخل التصميم تعديلات هامة في شبكة المواصلات لجهة تنمية وسائل النقل وتنظيم ثلاثة محاور جديدة هي: محور البرج، محور المعرض، ومحور السرايا القديمة، أما محور البرج فقد تم فتحه على البحر لربط منطقة الأعمال المقترح إنشاؤها مكان الحوض الأول بساحة الشهداء، كما تم ربط محور المعرض بالبحر، أما محور السرايا فالغاية منه إيجاد واجهة بحرية لمنطقة السرايا وربطها بالحديقة العامة التي ستنشأ في مكان مكب النورماندي على البحر. وهكذا تسهّل هذه المحاور الحركة الداخلية وتربط بين مختلف أقسام الخط الدائري في الوسط، وذلك لتفادي أزمة الاختناق التي تتعرض لها معظم المدن خصوصاً في وسطها، وتؤمن حركة الدخول والخروج باتجاه البحر ومع المحيط المجاور.

       

- بالنسبة للوظيفة السياحية:

        يمثل وسط العاصمة مكان التقاء الوافدين إليها وهو أيضاً مكان اجتماع مختلف الأنشطة الاقتصادية والثقافية، كما أنه المساحة التي تبرز وجه المدينة ونافذتها على العالم، ففي الوسط نقرأ تاريخ المدينة. ومن الضروري أن يكون للوسط دوره السياحي وذلك من خلال إعادة بناء الفنادق والمطاعم واسترجاع مؤسسات اللهو والتسلية ودور السينما والملاهي، ويتبيّن أن التصميم الموضوع قد حافظ على بعض المباني القديمة في الوسط وذلك لأهميتها التاريخية والتراثية والمعمارية (بلغ عدد المباني المحافظ عليها 192 بناء)، بالإضافة إلى الكنائس والمساجد وكذلك الأبنية الحكومية ذات الطراز المعماري كالبرلمان ومبنى البلدية ومبنى وزارة الاتصالات والبريد، إضافة إلى مبنى السراي الكبير ومبنى العادلية (سابقاً) كما حافظ المخطط على الأبنية المتواجدة في أحياء المعرض، اللنبي، فوش، وشارع المصارف .. وهي تشكل نحو ربع المساحة الإجمالية لوسط بيروت.

        كذلك حافظ المخطط على بعض الأبنية المتفرقة مثل مبنى التياترو الكبير ومبنى ستاركو وفندق الهيلتون وبرج المر، وقد تم مثلاً استثناء التياترو الكبير من الهدم ليكون مسرحاً وطنياً في قلب العاصمة تجهزه الدولة وتضعه في تصرف المسرحيين اللبنانيين، وذلك بهدف إعادة بعث الحياة في وسط المدينة كمركز ثقافي وإعلامي على اعتبار أن العاصمة تمثل منارة فكرية وثقافية في العالم العربي والشرق الأوسط.

       

والبارز أيضاً أن المخطط الجديد قد ترك في منطقة الوسط مساحات حرة كافية للساحات العامة والشوارع وممرات للمشاة وذلك للتخفيف من الاكتظاظ السكاني، كما سيتم إنشاء حديقة عامة للالتقاء والتنزه بمساحة 60 ألف م2، بعد إلغاء مكتب النورماندي الذي يشوه منظر العاصمة على البحر، وتغطي مساحته 150 ألف م2 تقريباً.

 

6- ماذا نبني في الوسط ؟

        يبقى أن التنظيم الداخلي للوسط لا يمكن قراءته بشكل كامل بواسطة التصميم أو النظام التوجيهي العام، لأن التنظيم الذي يوزع المساحة بين أماكن مبنية وأخرى حرة لا يتضمن بشكل تفصيلي على كيفية استعلامات المباني أو المساحات الحرة والتي يجب أن ترفق بشروحات مفصلة لمحتويات الساحات والحدائق ووضع النصب والتماثيل وتصميم برك المياه وتوزيع المقاعد للمتنزهين، واختيار أماكن المقاهي واللهو لأنها ستصبح مراكز تجمع للناس في وسط المدينة.

        كلها علامات مرئية ومحسوسة ومخيفة أحياناً تتجسد من خلال التمازج في تنظيم وتوزيع الأشكال والمساحات في المجال المديني. إن ابن المدينة يميل إلى الابتعاد والهروب عن مدينته كلما سنحت له الفرصة، خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع وخلال الأعياد، يدفعه إلى ذلك عدم توفر شروط الحياة اللازمة في التجمع المديني، وهذا لا يرجع لتزايد عدد سكان المدينة أو لتشابك وظائفها أو نموها السرطاني المخيف، بل أنه نتيجة نسيان المدينة لطبيعتها الحقيقية وهدفها، وعدم توفر العناصر المحركة للوسط الإنساني.

        وفي نهاية الأمر كيف نعيد بناء وسط العاصمة الذي دمرته الحرب ؟ وكيف نعيد الحياة والنشاط إلى المدينة ؟ على ضوء المعلومات التي ذكرناها يتبيّن لنا أن بناء مدينة لا يرتكز فقط إلى تخطيط استعلامات الأرض وتوزيع مراكز التجارة والأبراج والشوارع والساحات، وتصميم المساكن وبناء الجسور وغيرها من المنشآت، بل المطلوب بناء المحيط المديني وتوفير وسائل الاندماج للإنسان الاجتماعي ثم خلق العناصر المحركة للأنشطة الحضرية فالمدينة رغم تخصصها بالأعمال التجارية والمالية والإدارية ليست إلاّ بيتاً ومكاناً للتلاقي الاجتماعي وهي بدون الإنسان تبدو مقفرة فارغة كالصحراء.

        إنّ بناء مدينة وفق قوانين الهندسة المعمارية وحدها لا يكفي، لأن المسألة لا تقتصر على البناء وفن العمارة، بل إن خلق مدينة يستوجب تشكيل فريق متكامل متعدد الاختصاصات والأنظمة، حيث يجب الاستعانة أيضاً بقوانين علم الاجتماع وعلم النفس

والجغرافيا، وحتى الفلسفة والشعر ... وربما ينطبق هذا على وسط العاصمة بيروت، الذي يجتاز اليوم مرحلة تاريخية حاسمة، وحيث تبرز الحاجة لإيجاد أمل في حياة أفضل.

        ويروي كاندليس في مقالة شهيرة بعنوان: "هندسة معمارية أم بناء" ان أوبالينوس، وهو مهندس معماري أثيني كان يتحدث في الهندسة المعماري مع صديق لأفلاطون حيث كانا يتجولان في أثينا ويتناقشان في الناس والشوارع، والهياكل والميادين، والوسط العام، وفي وقت ما توقفا أمام هيكل يوناني صغير، هيكل لأثينا، وقال أوبالينوس المهندس لصديقه، يا صديقي أنت الذي يعرف أشياء كثيرة أنت الذي يرى أشياء كثيرة قل لي ما هو شعورك أمام هذا الهيكل الصغير اليوناني وبدأ يصف بشكل عجيب هيكل النصر بدون أجنحة على الأكروبول وجعل الصديق يمتدح التناسق والمنظر الطبيعي ودقة التزيين. وبعد أن انتهى من الوصف قال أوبالينوس المهندس، نعم إنك تعرف أشياء كثيرة ولكنك لا ترى الشيء الجوهري، إن هذا الهيكل قد صنعته أنا أوبالينوس المهندس، لقد بينته حينما كنت شاباً، وفي ذلك الوقت كنت أحب فتاة، وكانت الوسـيلة الوحيدة للتعبير عن حبي لها هي بناء هذا الهيكل، والهندسـة المعمارية يا صديقي ليسـت إلاّ شـكلاً من أشـكال محبة الناس.

 

       


Monday, June 26, 2023

لبنان الأكثر شيخوخة بين الدول العربية.. مقابلة د. علي فاعور في "اندبندنت عربية"..

 

لبنان الأكثر شيخوخة بين الدول العربية

 ، "مقابلة د. علي فاعور مع الصحافية كارين ضاهر عبر "أندبندنت عربية

  الخميس 11 أيار/مايو 2023



يعد لبنان البلد الوحيد من 237 دولة في العالم، الذي يفتقد إلى التعداد السكاني منذ الاستقلال، إنما يؤكد المشهد الحالي والمسوح السكانية غير الشاملة التي تجرى في البلاد بتمويل من الهيئات الدولية والأمم المتحدة، تحولاً جذرياً ومقلقاً قد لا تظهر نتائجه في المدى القريب، بل هو يهدد بانفجار ديموغرافي خلال سنوات، قد لا تكون التحولات الحاصلة اليوم في البنية السكانية الأولى من نوعها، فالهجرة لعبت دوراً بارزاً في السنوات الأخيرة في التغيير على مستوى الهرم السكاني في البلاد، وهي ليست المرة الأولى التي يمر فيها لبنان بتجربة مماثلة، لكن من المؤكد أن الوضع الحالي أخطر بكثير ولا يشبه ما نشهده من تغيير في بنيته السكانية، أي تحول سابق في تاريخه مع وجود عوامل ومعطيات تزيد من خطورة الوضع وتستدعي التفكير باستراتيجيات وسياسات قد تسهم في مواجهة هذا الخطر الداهم في السنوات المقبلة.

الخطر أكبر بوجود اللاجئين والنازحين

الهجرة وتراجع معدلات الزواج والولادات وشيخوخة السكان، كلها عناوين كثر الحديث عنها أخيراً في ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تعصف بلبنان، وكلها عناصر تجتمع لتشكل تهديداً للبنية السكانية في لبنان. بحسب أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية تراجعت معدلات الولادات من 86584 ولادة في عام 2019 إلى 74049 في عام 2020، ثم عادت وانخفضت إلى 68130 ولادة في عام 2021، نتيجة الأزمة وتردي الوضع الاقتصادي وتزايد معدلات الفقر، ما يؤثر حكماً في النمو السكاني، بوجود هذه العناصر مجتمعة، يحذر الدكتور في العلوم الجغرافية والباحث في شؤون السكان علي فاعور من الانفجار الديموغرافي المتوقع بعد سنوات إذا بقي الوضع على حاله من دون تدخل جدي في هذا المجال.

يدق ناقوس الخطر لأن لبنان يشهد تصدعات وانكسارات في بنيته السكانية، بما يشبه البنية الطبيعية التي تتعرض لزلازل، فقد تعرضت البنية السكانية لتصدعات من مرحلة الحرب نتيجة الهجرة وتناقص عدد السكان وانخفاض عدد أفراد الأسرة وأعداد الزواجات والولادات، كما يحصل عادةً في الأزمات، بالتالي ليست المرة الأولى التي يشهد فيها لبنان تحولاً من هذا النوع، إلا أن الوضع الديموغرافي أكثر خطورة حالياً بسبب هشاشة البنية السكانية، ففي مرحلة الحرب استطاع لبنان أن يتخطى التحولات الحاصلة، أما اليوم فالخطر أكبر بوجود لاجئين ونازحين في لبنان بمعدل هو الأعلى في العالم بالنسبة إلى عدد السكان والمساحة، فإذا كان لبنان قد عبر مرحلة الحرب مع تصدعات في البنية السكانية، تأتي حالياً بوجود ما يعادل نصف عدد السكان من اللاجئين.

ينتج الضعف الأساسي في البنية السكانية عن التعطيل والصراعات السياسية والفراغ، في ظل الأزمة الاقتصادية والانهيار الحاصل وحال الإفقار والتجويع التي أدت إلى هجرة الشباب، وبحسب تصنيفات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة، أتى لبنان في المرتبة الأولى بين الدول في تناقص عدد السكان. كما تؤكد الإحصاءات الأخيرة أن النمو السكاني في لبنان بطيء جداً. فقد أظهر مسح أجري في عام 1996 أن عدد سكان لبنان هو ثلاثة ملايين و126 ألف نسمة، وأظهر مسح عام 2019 أن العدد بلغ أربعة ملايين و800 ألف نسمة بنسبة 20 في المئة من غير اللبنانيين، أما حالياً فتشير التقديرات إلى أن عدد السكان يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وعلى رغم غياب إحصاءات دقيقة تؤكد عدد المقيمين الفعلي على الأراضي اللبنانية، في ظل الهجرة وتناقص عدد السكان، يقدر فاعور عدد المقيمين في لبنان بنحو ثمانية ملايين نسمة، مشيراً إلى أن لبنان يعد الدولة العربية الأولى التي أكملت مرحلة التحول الديموغرافي مع دخوله في مرحلة شيخوخة السكان في ظل هذه التحولات الديموغرافية الكبرى الحاصلة.

مؤشرات مقلقة عديدة

من المؤشرات التي تدعو للقلق أيضاً، مستوى خصوبة المرأة الذي يدل على استمرار التكاثر السكاني، كان هذا المستوى 1.8 طفل في الأسرة للمرأة الواحدة في عام 2017، وهو يقارب حالياً 1.5 أو 1.4، إذا ما استثنينا غير اللبنانيين، علماً أن انخفاض مؤشر مستوى الخصوبة إلى ما دون الخط الأحمر أي دون معدل الولدين، يستدعي حكماً من الدول وضع سياسات وخطط إنمائية واجتماعية واقتصادية، تماماً كما حصل في اليابان التي تحتل المرتبة الأولى بين الدول التي بلغت الشيخوخة بوجود نسبة 28 في المئة من السكان ممن تخطوا عمر 65 سنة، لذلك، وضعت اليابان خططاً لرعاية الأطفال مع تقديمات بحسب عدد الأطفال من تعليم ومساعدات وغذاء لزيادة معدلات الإنجاب ومواجهة هذا الواقع.

في لبنان، يعد غياب التعداد السكاني وضبابية الأرقام ونشر المعلومات المضللة مشكلة لا يمكن الاستهانة بأهميتها وهي خطر يهدد لبنان أيضاً. لكن على رغم غياب للإحصاءات الدقيقة والمسح الشامل، يؤكد الواقع الحالي أن البنية السكانية في لبنان مهددة بمزيد من التغييرات مع تراجع عدد الولادات وانخفاض متوسط عدد أفراد الأسرة اللبنانية مع تراجع ملحوظ في عدد الصغار في السن، لكن يخشى فاعور ألا تعكس الأرقام حقيقة الوضع بوجود التباينات المناطقية الشاسعة على رغم صغر مساحة لبنان، ففي سبعة أقضية في لبنان، يظهر أن المستوى العام للخصوبة دون الخط الأحمر في المناطق ذات الأغلبية المسيحية بشكل خاص، في المقابل، يزيد مستوى التكاثر السكاني في عكار والمنية الضنية في شمال لبنان حيث ترتفع نسب المجنسين، وبشكل عام، النمو السكاني غير موجود إلا في مناطق محدودة في لبنان، فيما هو في غاية البطء في مناطق أخرى.

ينطبق هذا على معدلات المسنين، إذ تلعب التباينات المناطقية دوراً مهماً أيضاً، لكن الصورة العامة تؤكد أن لبنان في مرحلة الشيخوخة، ففي لبنان أعلى نسبة من كبار السن في المنطقة العربية، يستدعي ذلك التدخل بجدية لمواجهة الارتفاع الكبير في عدد المسنين في السنوات الأخيرة في مقابل تراجع معدلات فئة صغار السن. فلا بد من وضع سياسات لرعاية المسنين وفق ما تتطلبه الظروف، مع الإشارة إلى أن دول العالم تواجه هذا الخطر، لكنها وضعت سياسات لمواجهته، كما فعلت أوروبا مع وضع خطة الهجرة الانتقائية.

سياسات لمواجهة الخطر

خطورة الوضع في لبنان اليوم في أن الهرم السكاني الذي من المفترض أن تكون قاعدته من الصغار في السن مقلوب، إذ يشكل المسنون نسبة كبرى من سكانه، فيما تهدد الهجرة بالأسوأ في لأيام المقبلة، وقد خسر لبنان بالفعل من عام 2019 نسبة 10 في المئة من سكانه، والهجرة اليوم أكثر خطورة مع تناقص عدد السكان ووجود الهيئات التي ترعى غير اللبنانيين حتى باتوا يشكلون نصف عدد سكان لبنان، مع ارتفاع معدلات الولادات بينهم، ومن المتوقع أن يتخطى عددهم عدد اللبنانيين في السنوات المقبلة على الأراضي اللبنانية.

هو خطر مستقبلي يستدعي وضع سياسات إنمائية بالتعاون مع الهيئات الدولية لمواجهة التغيير الجذري في معالم الخريطة الديموغرافية والتغيير العميق في التركيبة السكانية الهشة أصلاً، وفق ما يوضحه فاعور "في حال استمرار السياسات الفاشلة واستمرار الدعم من المجتمع الدولي لتثبيت النزوح السوري ودمج اللاجئين، وبغياب الأرقام التي تؤكد أعداد اللاجئين وتوزيعه، وبغياب السياسات السكانية الواضحة للتعامل مع الملف، من المتوقع أن يحصل تغيير عميق غير قابل للتصحيح في وجه لبنان في السنوات المقبلة، وهناك خطة ممنهجة وواضحة تحصل بدعم المجتمع الدولي وتنفذها الهيئات الدولية لمنع عودة النازحين السوريين إلى المناطق الآمنة في استعادة لتجربة إدارة ملف اللاجئين الفلسطينيين، وعندها سيسهل تثبيت التغيير الديموغرافي عبر إغراق لبنان في مزيد من الفوضى والانهيار، وسيؤدي ذلك إلى تغيير بارز في المكونات السكانية".

Monday, October 17, 2022

 في لبنان.. انتفاضة شعبية فشلت لكنها دخلت التاريخ

إنتفاضة الشباب 17 تشرين أول 2019..
محاولة لرسم خارطة جديدة لإنقاذ لبنان..‏
د. علي فاعور، 17 تشرين أول 2022.
قبل ثلاث سنوات، في ذكرى الإنتفاضة الشعبية نهاية عام 2019.. ولدت تجربة ديموقراطية حديثة في ‏لبنان.. ففي صبيحة يوم 17 تشرين الأول بدأت مجموعات صغيرة من الشباب تتحرك في وسط العاصمة ‏بيروت، من ساحة الشهداء إلى ساحة رياض الصلح، لكن أحداً من السياسيين لم يكن يتوقع أن تتولد منها ‏موجات ضخمة أخذت تتصاعد لتملء الساحات خلال ساعات معدودة..‏



وإذا كان من الصعب التنبوء بالزلازل الطبيعية قبل حدوثها، فقد كان يستحيل توقع حدوث الإنتفاضة ‏الشعبية التي لا زالت أثارها بارزة في لبنان، وهي ككل الثورات تبدأ بخطوة ينفذها الفقراء والمحرومين، ‏لكنها كانت غير متوقعة في لبنان، حيث دفعت الإنقسامات الطائفية الناس إلى التشاؤم.. لقد أقفل أمراء ‏الحرب كل الطرق، وسدوا جميع المنافذ، حتى شعر الناس باليأس، وفقدوا الأمل في التغيير، فهاجر ‏الشباب إلى الخارج، وتحول البلد الصغير إلى مزارع ومقاطعات، حيث تم تقسيم الأراضي والحصص بين ‏الطوائف وإنشاء محميات تفصلها خطوط التماس التي رسمتها الحرب الأهلية قبل 40 سنة.‏
بل لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث، وخلال الخمسة أيام الأولى فقط، إهتزت البنية السياسية القائمة منذ ‏ثلاثة عقود، فقررت السلطة الحاكمة على عجل وخلال ساعات معدودة، التوصل إلى ورقة إصلاحية كانت ‏ترفض تصديقها برغم الضغط الدولي، بحيث أن مضمون هذه الورقة جاء ضعيفاً ويصعب تنفيذه، كونه ‏كتب تحت تأثير الصدمة التي فاجأت الحكومة..‏
من كان يتوقع ان تحدث "أعجوبة" في لبنان، هذا البلد الغارق في وحول الفساد والهدر منذ قرابة نصف ‏قرن، والذي دمرته النزاعات الطائفية والسياسية بإعتماد سياسة المحاصصة بين الزعماء والمناطق، ‏بحيث إرتفعت نسبة الفقراء الغارقين في ديونهم لتبلغ أكثر من نصف سكان لبنان. هذا البلد الذي يطرد ‏ابناءه من أصحاب الشهادات العليا، والذي يعتمد سياسة المحسوبية والطائفية، بدل الكفاءة والأهلية، في ‏تولي الوظائف وعلى كافة المستويات، مما أدى إلى تزايد موجات هجرة الشباب للبحث عن وطن وعمل ‏في الخارج. ‏
نعم إنهم فقراء يبحثون عن لقمة العيش في "مراكب الموت"، يأكلون جوعهم بعد أن أكل زعماؤهم كل ‏خيرات الدولة.. أداروا ظهورهم عن مطالب الناس الغارقين في الديون والفقر، وصموا آذانهم عن اوجاع ‏المرضى الهائمين عند ابواب المستشفيات، بل لم يكترثوا لتراكم ملفات الفساد للمحاسيب والأزلام ‏الغارقين في أوحال السرقات وهدر المال العام.. لقد تم مصادرة مؤسسات الدولة ووضع اليد على ملفات ‏التوظيف العشوائي التي تراكمت قبل الإنتخابات الأخيرة.. ‏
بل لقد تم تصنيف لبنان بين أكثر بؤر الجوع الساخنة في العالم، حيث أصدرت الأمم المتحدة ‏تحذيرا مبكرا في تقرير صدر في أيار 2022، عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة ‏‏(الفاو)، يدعو لاتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 بؤرة جوع ساخنة مهددة بانعدام الأمن الغذائي ‏ومعرضة لخطر الانحدار نحو ظروف كارثية، بينها أيضاً لبنان، حيث يتم توزيع الخبز يومياً للأسر ‏الأشد فقراً ويواجه السكان بالفعل المجاعة والموت..‏
بينما يحاول البعض تشويه الصورة ومصادرة الحلم الذي يراود الشباب لبناء مستقبلهم.... فقد فشلت كل ‏المحاولات في مرحلة العودة إلى وطن.. حيث تستمر موجات الهجرة المغادرة لبنان والتي باتت تضم ‏خلال ثلاث سنوات نحو 10 في المائة من السكان اللبنانيين (400 ألف مهاجر)، من الأطباء والممرضات ‏والمهندسين واصحاب المهارات، والقضاة وأساتذة الجامعات وغالبيتهم من الشباب من حملة الشهادات ‏العليا.. وأمام أعيننا يتحول الوطن إلى مزارع للطوائف، يحكمها زعماء الحرب الذين تبادلوا الحصص، ‏وتوزعوا الأراضي والموارد.. بينما يستمر نزيف العقول التي تمثل خسائر تُقدر بالمليارات..‏
‏ وخلال العقود الثلاثة الماضية، كانت تنهب ثروات الدولة وتتكدس المليارات المنهوبة بأيدي الزعماء ‏واتباعهم في محميات الطوائف.. بل وفي مواجهة أكبر أزمة لاجئين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ‏فقد تم تحويل لبنان إلى خزان بشري للنازحين واللاجئين لا مثيل له في التاريخ الحديث، ووضعه تحت ‏وصاية المجتمع الدولي لطلب المساعدات للنازحين وتفادي الإنهيار الإقتصادي، وطوال أكثر من 11 سنة ‏كانت تعقد المؤتمرات الدولية من باريس وبرلين إلى بروكسيل ولندن، وحتى رعاية مؤتمر باريس - ‏سيدر الأخير، ثم العودة الى روما وبروكسيل، ونيويورك، حيث استمر المجتمع الدولي يطالب بدمج ‏النازحين وتوطينهم، بينما تحوّل البحر المتوسط الى مقبرة اللاجئين عند أبواب أوروبا، حيث يواجه لبنان ‏حالة طوارئ غذائية خطيرة جداً..‏
اليوم، وفي ذكرى مرور ثلاث سنوات على إنتفاضة 17 تشرين، وفي ذروة الأزمة الاقتصادية التي ‏يعيشها لبنان وهو على مشارف الانفجار الاجتماعي، لا زالت الآمال تتركز حول احياء الإنتفاضة الشعبية، ‏فهي قد بدأت بأهداف وطنية لتعبر عن وجع الناس.. ‏‎ ‎إنتفاضة غير مسبوقة، بل محاولة لإنقاذ لبنان، ‏أنجزت الكثير خلال أيام معدودة برغم التدخلات الدولية من جهات سياسية لحرفها عن المطالب المعيشية ‏المحقة، وبرغم تعقيدات الأزمة اللبنانية وتمسك البعض بالحصص والتوازنات القائمة بعد الإنتخابات ‏الأخيرة، والتي تواكب الإتصالات الجارية لتشكيل الحكومة، وتراكم الأخطاء الموجهة بأهداف سياسية ‏لتحقيق مكاسب من أحزاب ونواب وشخصيات، ومحاولات التشويه التي تتعرض لها من قوى سياسية ‏في الداخل وجهات مدعومة من الخارج..‏
لقد شملت انتفاضة تشرين كافة المناطق والمدن اللبنانية، من عكار إلى صور وبعلبك والهرمل ثم النبطية ‏وصيدا وبيروت وجونية وجبيل وطرابلس، لتعم كافة أقسام الجغرافيا اللبنانية، وهي أيضاً بمثابة ‏الإعصارالناجم عن إستمرار الحراك الشعبي الذي كشف عن مطالب الجياع والفقراء لمحاسبة الفاسدين ‏وإسترجاع المال المنهوب نتيجة السياسات الفاشلة المعتمدة في الحكم، ومنذ 17 تشرين أول 2019 ‏حتى يوم 17 تشرين اول 2022، لا زالت إنتفاضة الشباب حيّة ومستمرة في ذاكرة اللبنانيين، لكنها فشلت ‏بسبب الحواجز الكثيرة التي وضعت أمامها، وحالت دون إستمرارها في طريقها الصحيح لرسم خارطة ‏جديدة لإنقاذ لبنان ومحاربة الفساد، وذلك برغم أنها قد ترافقت مع حركة طلابية شاملة، عابرة للمناطق ‏وعابرة للطوائف...لقد فشلت.. لكنها مثلت الخطوة الأولى في طريق العودة إلى وطن... ‏
د. علي فاعور في 17 تشرين أول 2022.‏