Tuesday, October 17, 2023

لبنان أمام خيارات العودة الآمنة والعودة الطوعية والمنظّمة للنازحين السوريين

 

لبنان أمام خيارات العودة الآمنة والعودة الطوعية

 والمنظّمة للنازحين السوريين

مقالة منشورة في جريدة اللواء 24 تموز  عام 2023.

د. علي فاعور: رئيس مركز السكان والتنمية

               لا تبدأ نهاية الأزمة السورية قبل عودة سوريا الى الجامعة العربية، ولا تكتمل عودة سوريا دون عودة اللاجئين اليها.. معادلة ترسم نهاية الأزمة السورية التي بدأت قبل اثنتي عشرة سنة، حتى باتت تمثل أكبر ازمة لاجئين منذ انشاء المفوضية العليا للاجئين عام 1951.




ففي 19 أيار 2023، انعقدت القمة العربية ال 32 في جدة بمشاركة سوريا وذلك بعد انقطاع دام اكثر من عشر سنوات، وهذا سيؤدي لاحقاً الى عودة الدول العربية لاستعادة دورها في سوريا، مما سيمهّد الطريق  لإيجاد حلول للملفات الشائكة، والتعاون في اطار الجامعة العربية لمواجهة الازمات المحلية والاقليمية وفي مقدمتها أزمة اللاجئين السوريين، وبخاصة  من دول الجوار في لبنان والاردن وتركيا، الى قراهم ومدنهم داخل سوريا....

 ثلاثة خيارات لعودة النازحين

       يُعتبر الحق في العودة بمثابة مبدأ انساني له أساس متين في القانون الدولي، وذلك بمجرد أن تختفي أسباب النزوح أو الفرار في بلد المنشأ، ويصبح الوضع آمنًا مرة أخرى للعيش في هذا البلد، كما هي الحال بالنسبة للوضع في سوريا اليوم، وبخاصة بعد عودة سوريا الى الجامعة العربية، بحيث يمكن البدء بتنظيم اعادة اللاجئين إلى بلدهم الأصلي . 

        وبما أن أزمة اللاجئين في سوريا تعتبر أكبر أزمة لاجئين عرفها العالم، فقد بات على جميع الدول التعاون والمشاركة في ايجاد حلول دائمة لمشاكل اللاجئين، وتسهيل كافة ظروف العودة الى ديارهم.. وبما يضمن حق الفرد في العودة الطوعية الى بلد المنشأ أو الجنسية، كما أن حق العودة هو جزء من مفهوم حقوق الانسان، ويكفل الاعلان العالمي لحقوق الانسان على أن "لكل فرد الحق في مغادرة أية دولة ، بما في ذلك بلده ، والعودة إلى بلده" ..

        ويتكوّن هذا الحق من إعطاء كل نازح ثلاثة خيارات، تتفاوت بحسب أوضاع البلدان المستقبلة للاجئين، ومقدرة المجتمعات المضيفة على التحمّل والاستيعاب، وتتوزع وفق الاتي:

·        الاندماج المحلي في بلد اللجوء

وذلك حيث يتوفر للاجئين خيار الاندماج المحلي الكامل، وبما يتماشى مع السياسة التي تعتمدها البلدان المضيفة في استقبال المهاجرين وتوطينهم، لإنهاء وضعهم كلاجئين...ودون أن يسقط حقهم في العودة..

·        إعادة التوطين في بلد ثالث

     يتوجب على المجتمع الدولي، والبلدان التي تستقبل اللاجئين أن تشارك "بسخاء" في تحمّل الأعباء وقبول امكانية "اعادة التوطين في بلد ثالث" لمن يرغب في ذلك من اللاجئين، وبحسب مبدأ القانون الدولي حول "تقاسم المسؤولية" بالنسبة لتوزيع اللاجئين...وفي المشاركة لتقديم المساعدة في التوطين الدائم لأولئك الذين يختارون البقاء في المنطقة وكذلك الحصول على حق الاقامة الدائمة والتجنيس..

·        العودة الطوعية إلى الوطن
       حق العودة هو مبدأ في القانون الدولي والاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين (عام 1951) ، وبما يضمن حق كل فرد في العودة الطوعية، وهو جزء من مفهوم حقوق الإنسان الأوسع ، وهو حرية التنقل ، كما أنه مرتبط بالمفهوم القانوني للجنسية.

 

صندوق دعم لاعادة اللاجئين والاندماج في سوريا.

        بعد مضي اثنتي عشرة  سنة على بداية الأزمة السورية، والانتشار الواسع للاجئين السوريين في البلدان المجاورة لسوريا، وتزايد أعدادهم في الخارج، فقد بات من الضروري أن يتم تنظيم اعادة اللاجئين من خلال تقديم الدعم والخدمات وتسهيل عملية التنقل، وتحسين ادارة الهجرة وتوفير كافة الاجراءات القانونية لتأمين العودة الآمنة والكريمة، ولا سيّما للاجئين الذين يقيمون في الخارج بشكل غير قانوني، من خلال تقديم الخدمات والدعم المالي، وضمان تطبيق سياسة العودة الانسانية واعادة الاندماج الشامل في بلد المنشأ..

          وتأتي أهمية توفير الدعم المالي لضمان فعّالية العودة الطوعية واعادة الاندماج، عبر إنشاء "صندوق دعم اعادة اللاجئين والاندماج للفترة 2023-2030"، بالتنسيق بين دول المنطقة لتعزيز التضامن وتقاسم المسؤوليات ولا سيّما تجاه الدول الأكثر تضرراً من تداعيات الهجرة واللجوء، والتعاون الفعّال مع كافة البلدان التي استقبلت اللاجئين السوريين في الخارج، وهو يهدف إلى زيادة تعزيز القدرات الوطنية في دول المنطقة، وتنظيم إجراءات إدارة الهجرة، فضلاً عن تعزيز التضامن وتقاسم المسؤوليات بين الدول الأعضاء، كجزء من سياسة الهجرة العادلة والفعّالة لمواجهة التحديات المتعلقة بالعودة وإعادة القبول والعمل عن كثب مع دول ثالثة من خلال الشراكات في إعادة اعمار سوريا، وتنسيق حالات الطوارئ وآلية النقل، وهذا ما يتم اعتماده بين دول الاتحاد الاوروبي بالنسبة للاجئين في أوكرانيا.

 

قواعد الاتحاد الاوروبي لإدارة عودة اللاجئين

           على الصعيد العالمي، يتبيّن أنه  في كل عام، يُطلب من أكثر من 300 ألف مهاجر مغادرة الاتحاد الأوروبي لأنهم دخلوا أو كانوا يقيمون بشكل غير نظامي،وذلك  عبر خطة توجيه العودة للمقيمين بشكل غير قانوني، وفق مبدأ المغادرة الطوعية من خلال وضع قاعدة عامة تنص على أنه ينبغي عادة منح "فترة للمغادرة الطوعية" ، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان..

        أما الدور الأساسي في تنظيم مختلف حالات اعادة اللاجئين في منطقة البحر المتوسط وأوروبا، فهو لوكالة الحدود وخفر السواحل الأوروبية "فرونتكس"، لضمان الحدود الخارجية الآمنة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبلدان المنتسبة إلى "شنغن"، فهي تتولى الدعم في جميع مراحل عملية العودة، بما في ذلك ، ادارة عمليات العودة المشتركة ، والحصول على وثائق السفر ، ودعم العودة الطوعية والمساعدة في إعادة الإدماج للعائدين في بلد المنشأ. ولا سيّما توفير الدعم المالي في إطار "صندوق اللجوء والهجرة والاندماج".. وفق سياسة الهجرة العادلة والفعّالة، وبالتنسيق مع المفوّضية في متابعة مهمة لميثاق الهجرة واللجوء. .

 

السياسات المتعلقة باللاجئين في لبنان

          بينما تعمل كافة الدول على تنظيم ادارة اللجوء والهجرة عبر تطوير السياسات المتعلقة بالمهاجرين، فان احد أكثر الأسئلة المحرجة عن السياسة السكانية في لبنان، هو كيفية التعامل مع أكثر من ثلاثة ملايين مهاجر ولاجئ يعيشون حالياً على الاراضي اللبنانية، حيث يعتبر لبنان أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم  بالنسبة لعدد السكان ومساحة الارض، بينما لا تملك الدولة   بيانات مفصّلة تتضمن أعداد اللاجئين  والمقيمين من غير اللبنانيين وتوزيعاتهم بحسب الجنسية، وبخاصة من الذين يعيشون بشكل غير قانوني، وأكثرهم من النازحين السوريين، من المسجلين لدى المفوضية، ومعظمهم من المهاجرين الاقتصاديين للبحث عن عمل.. بينما بحسب القوانين اللبنانية يجب تحديد هوية كافة المهاجرين الذين يعيشون في لبنان بشكل غير قانوني واتخاذ الاجراءات المناسبة بشأنهم.. وذلك وفقاً لمضمون قرار مجلس الوزراء عام 2014 المتعلق بورقة سياسة النزوح السوري الى لبنان، مع التأكيد على ان الاجراءات المتخذة لاعادة النازحين تتم وفق قرار المجلس الاعلى للدفاع عام 2019..

         بدأت الحكومة اللبنانية بتطبيق سياسة العودة الطوعية للنازحين السوريين إلى سوريا ، وذلك وفق خطة العودة التي بدأت عام 2019، وبمشاركة المفوضية،  وشملت عودة آلاف السوريين النازحينوقد تم تنسيق خطة العودة مع السلطات السورية لجهة الموافقة على أسماء العائدين ممن لا توجد لديهم ملفات أمنية، لحمايتهم من الاعادة القسرية..  وفي عام 2014 قرر مجلس الوزراء الموافقة على ورقة سياسة النزوح السوري، وقد تضمنت الخطة:

·         "وقف النزوح على الحدود باستثناء الحالات الانسانية الاستثنائية، وتسجيل الداخلين وفق أسباب دخولهم للتأكد من تطبيق هذا الاجراء، وكذلك الطلب من مفوضية شؤون اللاجئين الالتزام بوقف تسجيل النازحين، الا بعد موافقة وزارة الشؤون الاجتماعية.

·        تشجيع النازحين السوريين على العودة الى بلادهم او الى بلدان اخرى بكل الوسائل الممكنة، وكذلك نزع صفة "النازح" عن كل من يذهب الى سوريا، وكل من يخالف القوانين اللبنانية..

·        تكليف البلديات اجراء مسح احصائي دوري للنازحين في اطارها الجغرافي وتوفيرها العناصر الضرورية للشرطة البلدية لحفظ الأمن.".

وفي العام 2015، وبناءً لطلب من الحكومة اللبنانية، توقفت المفوضية من تسجيل اسماء جديدة لسوريين نازحين، حيث بلغ عددهم بحسب آخر بيانات للمفوضية، حوالي 795.322 نازح (186.585 أسرة) حتى تاريخ 30 حزيران 2023. لكن وبحسب ما كشفه المدير العام للأمن العام (تموز 2023)، فقد "استمرت المفوضية بتسجيل اسماء جديدة من العام 2015 حتى اليوم على سجلات موازية بحجة توزيع بعض المساعدات عليهم، وقد وصل العدد الاضافي الى حوالي 700 الف اسم "..وتشير تقديرات الأمن العام الى أن عدد النازحين يزيد على مليوني نازح.

وبرعم مطالبة الحكومة تسايم بيانات تسجيل النازحين "داتا" لدى المفوضية، فهي لا زالت ترفض تسليم داتا المعلومات المتعلّقة بالنازحين إلا "بشرط منح إقامات لنحو مليون و600 ألف نازح وهذا أمر بات معروفا لكنّه يتعارض مع القوانين الدولية والأخلاق". وهذا معناه اعطاء شرعية كاملة لكافة المقيمين برعاية المفوضية على الاراضي اللبنانية..

 

مذكرة تفاهم مع مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 2003.

         ومع تزايد اعداد اللاجئين العراقيين الوافدين الى لبنان عام 2003، فقد أبرمت مذكرة تفاهم (بتاريخ 9/9/2003)  بين المديرية العامة للأمن العام والمكتب الاقليمي لمفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين حول التعامل مع المتقدمين بطلبات اللجوء لدى مكتب المفوضية في لبنان، تضمنت تمسك لبنان بحقوقه وبما لا يتعارض مع الدستور اللبناني الذي ينصّ على أنّ لبنان ليس بلد لجوء، بل مجرد بلد عبور لأولئك الذين يسعون للحصول على اللجوء في دول ثالثة كما تضمنت الاتفاقية السعي لإيجاد حلول إنسانية مؤقتة لمشاكل الداخلين والمقيمين غير الشرعيين في لبنان الذين يطلبون وضع اللجوء في مكتب الأمم المتحدة، بانتظار إعادة توطينهم في بلد ثالث أو إعادتهم إلى موطنهم الأصلي. كما تضمنت الاتفاقية التأكيد، أنه:

         "وحيث أن لبنان لم ينضم إلى الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين التي اقرت في جنيف بتاريخ 28 تموز 1951 والبروتوكول الملحق الصادر بتاريخ 31 كانون الثاني 1967..
وبما أن لبنان يرى أنه غير مهيأ ليكون بلد لجوء بالنظر لاعتبارات اجتماعية واقتصادية وديموغرافية بالإضافة إلى وجود مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أرضه, وحيث أن لبنان ليس بلد لجوء, وان الحل المناسب هو في إعادة توطين اللاجئين المعترف بهم من قبل مكتب المفوضية في بلد آخر"، لكن وحتى بداية النزوح السوري عام 2011، لم يتم اجراء أي تعديل أو تحديث لمذكرة التفاهم، حيث استمرت المفوضية بإصدار بطاقات التسجيل ..

 

مخاوف التغيير الديموغرافي

            وبينما اعتمدت الحكومة اللبنانية سياسة الحدود المفتوحة منذ بداية الازمة السورية عام 2011، مما أدى الى تزايد اعداد السوريين الوافدين من كافة المناطق في سوريا، ونتيجة تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتوترات القائمة مع المجتمعات المضيفة وبخاصة نتيجة ارتفاع مستوى البطالة والتنافس في سوق العمل، ولا سيّما نقص الموارد لعدم القدرة على تلبية الحاجات المتزايدة مما ادى الى انقطاع المياه، والكهرباء، وتراكم النفايات بين السكان وتلوّث مجاري الأنهار والصرف الصحي..  خصوصا في الأماكن المكتظة بالسكان، فقد بدأت تتزايد الاحتجاجات المعارضة لبقاء النازحين.

 وبرغم تعدد المواقف والانقسامات السياسية والحزبية حول التعامل في ملف النازحين، يتبيّن أنه بعد مرور 12 سنة، فقد بدأت تتوحد المواقف المطالبة بعودة النازحين مقارنة بعام 2014 مثلاً، وذلك برغم التباين بحسب الانتماء الحزبي أو الانتماء الديني  بين اللبنانيين، بل وعلى النقيض من ذلك، فقد تغيّرت المعادلة وبات هناك توافق بين مختلف الاحزاب، وكذلك بالنسبة للمواطنين من مختلف الانتماءات الدينية، من الذين أصبحوا أكثر دعمًا لفكرة "ترحيل" جميع النازحين الذين يعيشون في لبنان بشكل غير قانوني، واقفال معابر التهريب للحد من تدفق المهاجرين الاقتصاديين..

         لقد بدأت الأكثرية تتحدث عن التغيير الديموغرافي القادم،  وذلك مع تكاثر اعداد النازحين من الذين باتت اعدادهم تفوق عدد اللبنانيين في العديد من المناطق الكثيفة السكان..

         وبينما يعجز لبنان عن توفير الموارد لإعالة الاطفال والمسنين، حتى توقف البعض عن تسجيل ابناءهم في المدارس، تُقدم المفوضية والمنظمات الدولية كافة أشكال الدعم للنازحين في التعليم والصحة والسكن، ورعاية الاطفال حيث بدأت تتكاثر الولادات، وبما يفوق بأضعاف عدد اللبنانيين، مما سيؤدي الى تغيير ديموغرافي واسع خلال السنوات القليلة القادمة.

مخاطر الاقامة الطويلة للنازحين في لبنان الصراع على لقمة العيش.. وفقراء يستضيفون فقراء

 

مخاطر الاقامة الطويلة للنازحين في لبنان

الصراع على لقمة العيش.. وفقراء يستضيفون فقراء

 د. علي فاعور: رئيس مركز السكان والتنمية

مقالة منشورة في جريدة اللواء 1 ايلول عام 2023.

 تصنيف لبنان 2023، بؤرة ساخنة للجوع في العالم

       في تطورسريع ومثير للقلق، فقد صنّف برنامج الأغذية العالمي لبنان كواحدة بين 20 بؤرة جوع ساخنة في العالم، والتي تحتاج لمساعدة طارئة لمعالجة انعدام الأمن الغذائيكما أصدرت منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي تحذيرات مبكرة بشأن انعدام الأمن الغذائي الحاد في لبنان عام 2023، وبحسب التقرير فان انعدام الأمن الغذائي الحاد في البلاد يرجع إلى الأزمة الاقتصادية المستمرة وعدم الاستقرار السياسي.

       بالعودة الى بداية الأزمة الاقتصادية قبل ثلاث سنوات، حيث شهد لبنان عام 2020،  أولى “احتجاجات الجوع"، وتوقف العديد منهم عن شراء اللحوم والفواكه والخضروات، كما حذرت "هيومن رايتس ووتش" والبنك الدولي، من أن أكثر من نصف الأسر اللبنانية  قد لا تكون قادرة على شراء الطعام بحلول نهاية العام.

        وفي 20 أيار 2020، نشر رئيس الحكومة اللبنانية السابق حسان دياب مقالاً في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، داعياً المجتمع الدولي إلى تنسيق الاستجابة لسياسات الأمن الغذائي لوقف خطر الجوع الذي يهدّد اللبنانيين ، ومحذراً من مخاطر هجرة اللاجئين الى اوروبا، حيث  "يتعين على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنشاء صندوق طوارئ مخصص لمساعدة الشرق الأوسط  في تجنب أزمة غذائية حادة؛ وإلا فإن المجاعة قد تؤدي إلى تدفق هجرة جديدة إلى أوروبا وزيادة زعزعة استقرار المنطقة"...

       وفي 29 تموز 2020، حذرت منظمة "أنقذوا الأطفال" في تقرير لها، من أن نحو مليون نسمة في منطقة بيروت لا يملكون المال الكافي لتأمين الطعام، أكثر من نصفهم من الأطفال المهددين بالجوع وأنه يوجد: "في بيروت الكبرى 910 آلاف شخص، بينهم 564 ألف طفل، لا يملكون المال الكافي لشراء احتياجاتهم الرئيسية"..

       لقد اضافت أزمة الوجود السوري اعباء ثقيلة أدت الى ارتفاع مستويات الفقر وانعدام الامن الغذائي لدى المجتمعات المضيفة واللاجئين على حد سواء.. كما ان ارتفاع أسعار السلع الأساسية والمواد الخام، كان له تأثير كارثي على كل من المواطنين اللبنانيين واللاجئين السوريين الذين يعيشون هناك. وهذا ما ادى الى تفكك شبكات الامان الاجتماعي، ثم ارتفاع معدلات التضخم وغلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية نتيجة انهيار العملة الوطنية التي خسرت 99 في المائة من قيمتها في السوق غير الرسمية،  ما ادى الى انتشار الفقر على نطاق واسع ليشمل أكثر من 90 في المائة من السكان، حيث بات من المستحيل تقريباً على الفقراء، توفير الطعام أو شراء الضروريات الأساسية الأخرى.

         وفي عام 2022، فقد  جاء لبنان في المرتبة الأولى عالمياً على مؤشر البنك الدولي بالنسبة لتضخم أسعار الغذاء،  متقدماً على زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية، وفنزويلا في المركز الثالث..

      مما سرّع وتيرة هجرة الشباب من الجامعيين والاطباء والمهندسين واصحاب المهارات العالية، وهي تشكل خسائر جسيمة تقدر بمليارات الدولارات.



اختلال التوازن: أعداد اللاجئين والنازحين تفوق  اعداد اللبنانيين

      كشف  وزير الداخلية بسام المولوي في لقاء اعلامي (كانون ثاني 2023)، إلى أنّ نصف سكان لبنان أصبحوا سوريين،  وأنّه في ظل "الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي وغياب الاستشفاء والغذاء...نحن مضطرون لتأمين كلّ هذه الأمور للسجون، فلا نستطيع السماح بانطفاء الكهرباء ولا بغياب الغذاء عن السجون، وهذه معاناة حقيقية تتحملها وزارة الداخلية من خارج مهماتها لافتاً إلى أن أكثر من نصف السجناء القصّار سوريو الجنسية، وثلث السجناء البالغين سوريون أيضاً، بالإضافة إلى جنسيات أخرى..

        واستناداً الى مصادر أمنية رسمية، فقد امكن جمع المعطيات الاحصائية حول اعداد المقيمين في لبنان من العرب والأجانب وفق الإقامات الصالحة وغير الصالحة (أي التي لم يجدد أصحابها إقاماتهم رسمياً)،  وحتى أيلول 2017،  فقد تم احصاء دخول 1,800,000 نازح سوري وفلسطيني دخلوا شرعياً الى لبنان عبر المعابر الحدودية.

ثم ارتفع هذا العدد ليبلغ عام 2022، نحو مليونين وثمانين ألف نازح مسجّل، يضاف اليهم نحو 450 ألف عامل من النازحين السوريين ممن كانوا يعملون في مناطق لبنانية مختلفة قبل الاحداث السورية...

وهذا لا يشمل بطبيعة الحال النزوح السوري أو الفلسطيني أو العراقي، أو الداخلين خلسة والمقيمين من دون إقامات، بحيث أن 55 في المئة منهم يقيمون في شقق ومنازل و15 في المئة في مخيّمات، والبقية موزعون في مواقع عمل ومبان مختلفة...  

         وبينما تتضارب التقديرات حول أعداد المنتشرين على الاراضي اللبنانية من غير اللبنانيين،  وفي غياب الارقام الرسمية،  يمكن حتى نهاية عام 2022، تقدير مجمل عدد النازحين السوريين المتواجدين على الاراضي اللبنانية بنحو ثلاثة ملايين نازح (مع اطفالهم من المولودين في لبنان)، يضاف إليهم أكثر من 450 ألف فلسطيني، علماً بأن وكالة «أونروا» تقدر فقط عدد الفلسطينيين المسجلين في لبنان بـ 449,957 لاجئاً، مسجلين رسميا حتى عام 2017، تضاف اليهم اعداد اللاجئين العراقيين وغيرهم من العمال العرب والاجانب، من الداخلين خلسة والمقيمين من دون إقامات، فضلا عن تزايد نسب الولادات المرتفعة والتي لا يصار الى تسجيلها رسميا، حيث يتكاثر  عدد المقيمين من عديمي الجنسية، والذين ترتفع اعدادهم سنوياً ما يضاعف من حجم الازمة  بعد مضي قرابة 12 سنة.. (الخريطة المرفقة)...

 

       هذا ما يجعل ارقام المهاجرين واللاجئين والنازحين المقيمين من غير اللبنانيين، تبلغ أكثر من ثلاثة ملايين ونصف، وهذا الرقم يكاد يوازي عدد اللبنانيين المقيمين في مختلف المناطق اللبنانية. ولو أخذنا بالاعتبار حركة النزوح الجماعي  وتزايد موجات الهجرة اللبنانية وتناقص عدد اللبنانيين المستمر، مما  سيؤدي خلال السنوات القليلة القادمة الى اختلال التوازن  داخل المجتمع اللبناني..

 

تزايد التوترات مع النازحين ونقص الخدمات العامة

 

       بحسب التقرير الصادر عن المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين  كانون الثاني عام 2020، و "بعد مرور نحو ثماني سنوات على الأزمة السورية، يستضيف لبنان أكبر عدد من اللاجئين لكل فرد في العالم"...

             أما اليوم وبعد أكثر من 12 سنة، لا يزال لبنان يستضيف أكبر عدد من اللاجئين مقارنة بعدد سكانه ومساحة أرضه، فقد تزايدت تدفقات المهاجرين السوريين، خصوصاً خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي تضم أعداد كبيرة من المهاجرين الشباب الباحثين عن فرص العيش في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا..

       ما أثر سلباً على مختلف جوانب حياة اللبنانيين، بما في ذلك التركيبة السكانية الهشّة المكوّنة من 18 طائفة دينية، وطبيعة التنوّع الديموغرافي والمذهبي.. ثم تراجع الاقتصاد والأزمة المالية والنقدية، واستنفاد الخدمات الاجتماعية، والصحية والبيئية، لا سيّما ما يتعلق بنقص المياه وانتشار التلوّث والأمراض، وتعقيد السياسة ، وتراجع الأمن مع تزايد التوترات بين النازحين والمجتمعات المضيفة..


  
       فضلاً عن تدهور حياة النازحين السوريين أنفسهم بسبب نقص التمويل ومبادرات البرامج غير المستدامة..
 مما أضعف المحركات الرئيسية للاقتصاد، مثل التجارة والمصارف والسياحة ، وقلل من فرص العمل وادى الى انتشار البطالة على نطاق واسع.

         وبحسب ما أكد وزير المهجرين عصام شرف الدين (تموز 2023)، المكلّف من الحكومة بإدارة ملف النازحين، يحتاج "النازحون" يومياً إلى "500 ألف ربطة خبز و5 ملايين غالون ماء، وبنى تحتية من ناحية الصرف الصحي والمياه، واستهلاك الكهرباء... وغيرها الكثير"، مؤكداً أن النزوح السوري "كلّف لبنان 30 مليار دولار على مدى 11 سنة".

 

 

الصراع على لقمة العيش.. وفقراء يستضيفون فقراء

      

 يتبيّن من توزيعات النازحين السوريين حسب مكان الاقامة في لبنان، ان نحو 86 في المائة منهم يعيشون داخل الاحياء الفقيرة في المجتمعات المضيفة، حيث يقيم غالبية اللبنانيين المهمشين.. ما ادى الى تفاقم أزمة النفايات وانتشار المكبّات العشوائية ثم تلوّث حوض نهر الليطاني والقرعون، نتيجة تضاعف عدد سكان بعض البلدات في البقاع الغربي، وبخاصة  في مناطق شتورة، قب الياس، وصولاً إلى تعلبايا وبرالياس، وحتى مجدل عنجر، وجب جنين ثم قرى غزة، الخيارة، حوش الحريمة ... وكذلك في مناطق البقاع الشمالي حتى بلدة عرسال التي تشهد أحداث أمنية متكررة في محيط مخيّمات اللاجئين، فهي تستضيف ضعفي عدد سكانها من النازحين السوريين..

        وهذا يتطلب تطوير "المطامر" الصحية وتأهيل معامل فرز النفايات، ثم تأمين التمويل اللازم وتعديل القانون لتمكين البلديات من جباية الرسوم، بطريقة تغطي كلفة جمع النفايات ونقلها ومعالجتها، وبمشاركة النازحين في تحمّل نفقات الاقامة والصرف الصحي واستهلاك المياه، وبمساعدة المنظمات الدولية لتطوير البنية التحتية، وبخاصة بالنسبة لمعالجة النفايات..

         في مواجهة هذا الوضع ، تزداد حدة التوترات والمنافسة  مع السكان المحليين  في مراكز البحث عن الوظائف لضيق فرص العمل ،بينما تبرز المعاناة في مجال الاقتصاد الهامشي أو غير المنظّم، حيث تنخفض الأجور وترتفع معدلات البطالة، كما أن أكثر من ثلث الرجال بين النازحين السوريين عاطلون عن العمل، في حين أن متوسط  ​​رواتب أولئك العاملين منهم، تمثل 40 بالمائة فقط من الحد الأدنى للأجور، وتبدو الاوضاع أسوأ بالنسبة لعمل النساء والأطفال، ناهيك عن الاستغلال والإساءة

 

المنافسة في سوق العمل والبطالة

       بلغت نسبة البطالة في لبنان عام 2012 نحو 27 في المئة، وهي قد باتت تزيد على 37 في المائة اليوم، حيث يعتبر لبنان الدولة الاولى في العالم من حيث نسبة البطالة، والتي باتت تزيد على 65 في المائة لدى فئة الشباب، ممن تبلغ أعمارهم بين 20 و 30 سنة، حيث يوجد أكثر من 650 الف لبناني عاطل عن العمل. بينما يعمل  في قطاعِ البناءِ والبُنى التحتيّةِ والزراعة قرابة مليون عامل سوري..

      تساعد هذه العوامل مجتمعة في توضيح عوامل التوتر المتصاعد في البحث عن سبل العيش والصراع على البقاء بالنسبة للمجتمعات المضيفة التي استنفدت مواردها بالكامل، وباتت تتعامل مع النازحين السوريين بمثابة منافسين اقتصاديين، ويمثلون عبئًا على الخدمات الصحية والاجتماعيةمما زاد من تأجيج التوتر في العلاقات، كما أدت المواجهات والأحداث الأمنية المتنقلة  في بلدات الشمال والبقاع، وضواحي بيروت، إلى اعتبار مخيّمات اللاجئين "ملاذاً للهاربين من الأمن"،  والمقيمين بطرق غير شرعية.

 

من ضيوف الى المطالبة بالرحيل والمغادرة

         نتيجة الاقامة الطويلة والتحوّل في طرق التعامل، لم يعد يُنظر إلى اللاجئين على أنهم ضيوف ، بل كمنافسين على لقمة العيش، كما انهم يتلقون المساعدات من المنظمات الدولية.. وهذا ما ادى الى تزايد الصراعات وارتفاع معدلات الجريمة والاعمال المخلّة بالأمن، بحيث أن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، والتهميش والمنافسة الواسعة، قد يدفع الفئات المهمّشة والضعيفة من النازحين، وبخاصة من المقيمين بطرق غير شرعية، الى ارتكاب اعمال مخلّة بالأمن، مما يشوّه صورتهم ويقوّض علاقتهم مع غيرهم من اللبنانيين.

       لقد أظهرت دراسة أجراها مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في منتصف عام 2014،  أن 61 بالمائة من المجتمعات المضيفة التي شملها الاستطلاع والبالغ عددها 446 منطقة، قد شهدت حالات توتر اجتماعي او أمني، أو عنف، متعلقة باللاجئين  منذ بداية العام، كما تم توثيق عشرات الحالات التي تشير إلى استخدام القوة ضد اللاجئين وبخاصة في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث تم توزيع منشورات تدعو اللاجئين إلى الرحيل والمغادرة، كما لجأت بعض البلديات لفرض حظر تجوّل على الأجانب لفرض الأمن..

        لقد أصبحت العديد من المناطق اللبنانية تعيش حالة عدم استقرار، بحيث ان التدهور الاقتصادي يؤدي الى التوتر الاجتماعي ثم الأمني والطائفي ، على خلفية الاضطرابات المستمرة في لبنان، في ضوء عدم كفاءة المعالجات الحكومية، والدعم الخارجي المتدني لجهة نقص التمويل من الجهات المانحة، ومحدودية قدرات المجتمع المدني على التحمّل والصمود.

 

الخلاصة

       يتحمل لبنان العبء الأكبر في العالم من أزمة اللاجئين، حيث أشارت منسقة منتدى المنظمات الدولية العاملة في المجال الانساني في لبنان " ايمي كيث"، والمكوّن من 26 منظمة دولية غير حكومية، إلى أن "لبنان يتحمل العبء الأكبر في العالم من أزمة اللاجئين، وعلى الرغم من ذلك لا يزال هناك تقصير مروّع في التمويل، حيث أنه مع حلول كانون الاول، لم يوفر سوى اقل من نصف مبلغ الإستجابة (46%) المنشود لعام 2014.

      كما شددت مديرة منظمة "اوكسفام" في لبنان أنه "حان الوقت ليلاقي كرم لبنان مساهمات أكبر من قبل الدول لتلبية شتى الحاجات، من خلال زيادة التمويل، وإعادة توطين اللاجئين في دول ثالثة، ومضاعفة الجهود لإيجاد حل سياسي للأزمة في سوريا".

       كما ان التهميش الاقتصادي المتزايد ، فضلاً عن التوتر الاجتماعي والطائفي ، على خلفية الاضطرابات المستمرة في المخيّمات، قد يكون من عوامل عدم الاستقرار على المدى الطويل في لبنان، حيث يتحمل المجتمع الدولي العبء الأكبر من هذه المسؤولية المشتركة بسبب معارضته عودة النازحين الى قراهم في  سوريا..

       وعلى الرغم من محدودية قدرة لبنان على حشد مساعدة المجتمع الدولي ، يمكن للحكومة اللبنانية ومجتمع القادة السياسيين في البلاد أن يكونوا أكثر استجابة لمواجهة المخاطر الناجمة عن سياسة دمج اللاجئين وتوطينهم في لبنان.

يتبع أيضاً: ("مخاطر الاقامة الطويلة للنازحين في لبنان 2.. التوظيف والنزاعات تهدد الاستقرار الاجتماعي").