Tuesday, October 17, 2023

خطة لبنان لتأمين اقامة النازحين السوريين

 

 خطة لبنان لتأمين اقامة النازحين السوريين

النقص في التمويل الدولي، والخسائر بالمليارات


د. علي فاعور، رئيس مركز السكان والتنمية.                    

مقالة منشورة في جريدة اللواء 25 آب عام 2023.


الاستجابة الانسانية لمواجهة أزمة اللاجئين

            لمواجهة تداعيات أزمة النازحين السوريين، فقد أطلقت الحكومة اللبنانية "خطة لبنان للاستجابة للأزمة"، بمثابة برنامج مشترك بين الحكومة اللبنانية وشركائها الدوليين والمحليين، ويتمّ تنفيذه بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية ومشاركة كلّ من مفوضية شؤون اللاجئين التي تتولى قيادة مكوّن الاستجابة الانسانية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومع العديد من الجهات الانسانية الدولية، وتضمّ قائمة الشركاء في هذه الخطة (قرابة 160 شريكاً) ، وزارات لبنانية إلى جانب وكالات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية محلية ودولية.

      ولمواجهة تداعيات أزمة النازحين فقد تم أطلاق مبادرة "خطة لبنان للاستجابة للأزمة 2015-2016"، ثم بعدها "خطّة لبنان للاستجابة للأزمة 2017-2020"، وكذلك خطة الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار التي تم إطلاقها في عام 2020 لتوفير المزيد من التمويل للبنان في أعقاب تفجير مرفأ بيروت،  ثم خطة الاستجابة للطوارئ، التي تم إطلاقها في شهر آب من العام 2021، كما تم إطلاق نداء منقّح لخطة الاستجابة للطوارئ لتلبية الاحتياجات حتى نهاية عام 2022. 

      وفي 20 حزيران 2022، تم اطلاق "خطة لبنان للاستجابة للأزمة لعام 2022-2023" ، بدعوة من وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من  المجتمع الدولي المساعدة لإعادة النازحين السوريين، والا فسيعمل لبنان "على اخراج السوريين بالطرق القانونية، من خلال تطبيق القوانين اللبنانية.. ذلك أنه وعلى مدى السنوات الـ11 الماضية، فقد تحمل لبنان عبئا ضاغطاً لا يحتمل بسبب وجود أكثر من 1.7 مليون نازح سوري ولاجئ فلسطيني يعيشون في جميع أنحاء البلاد، اي في 97 في المائة من البلديات في كل لبنان "..

         وتعمل  الخطة التي يتم تطبيقها اليوم لمساعدة 3.2 مليون شخص في البلاد عام 2023، والهدف هو تقديم الدعم إلى 1.5 مليون لبناني و1.5 مليون نازح سوري وأكثر من 209,000 لاجئ فلسطيني.

        ويتفرّع من الخطة الرئيسية خطط الاستجابة القطاعية التي تشمل: الإعانات الأساسية، التعليم، الطاقة، المأكل، الأمن الغذائي والزراعة، الصحة، سبل العيش، الحماية، المأوى، الاستقرار الاجتماعي والمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية..

       بحيث يتم تنفيذ عملية دمج واسعة في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والصحية،  وذلك باعتماد مختلف وسائل المساعدة النقدية متعددة الأغراض منذ عام 2013، من خلال النقد وبطاقات الصراف الآلي لتعزيز قدرة العائلات على تغطية احتياجاتها الأساسية، مثل الايجار والغذاء والأدوية وتقليل تعرضهم للاستغلال.

 

  

مشروع إغاثة الأطفال السوريين

        مع استمرار تدهور الوضع في لبنان، ولمواجهة أعباء النزوح السوري الطويل الأمد، ما ادى الى تزايد الولادات وعدد الأطفال لدى النازحين السوريين،  فقد تم أنشاء   "مشروع إغاثة الأطفال السوريين" استجابة لأزمة اللاجئين الحالية،  ولضمان حصول هؤلاء الأطفال على الرعاية الطبية الأساسية، وغيرها من المساعدات اللازمة لعيش حياة أفضل.

       هكذا تتم رعاية اللاجئين الى جانب الفقراء على عاتق البلدان النامية، وهذا يشبه على المستوى الدولي، ما حصل بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، حيث تم تأسيس صندوق إغاثة أطفال فلسطين (PCRF) في عام 1992 في الولايات المتحدة، لتقديم رعاية طبية مجانية للأولاد والبنات العرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط  المصابين بأمراض خطيرة والتي لا يمكن توفيرها في بلدانهم الأصلية..

       وبحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فان أقل من نصف الأطفال اللاجئين في سن الدخول إلى المدرسة في لبنان ملتحقون بالتعليم الرسمي عام 2021..  حيث "يستضيف لبنان 660 ألف طفل سوري لاجئ في سن المدرسة، لكن بحسب  تقييم الامم المتحدة فان 30 في المائة منهم، أي 200 ألف طفل،  لم يذهبوا إلى المدرسة قط، وأن 60 في المائة منهم  لم يتسجّلوا في المدارس خلال السنوات الأخيرة"... كما ترى المنظمة  انه "على وزارة التربية  تغيير السياسات التي تمنع أطفال اللاجئين من الوصول إلى التعليم... بسبب التدابير التي تشترط حصولهم على سجلات تعليمية مُصدَّقة، وإقامة قانونية في لبنان، وغيرها من الوثائق الرسمية التي لا يستطيع معظم السوريين الحصول عليها".

        أما حول الأمية والتسرّب المدرسي وعمل الاطفال،  فترتفع نسبة الامية بين الأطفال اللبنانيين في المناطق الفقيرة المكتظة بالسكان، حيث ترتفع الامية في محافظتي الشمال وعكار لتبلغ 8 في المائة، بينما هي 5.6 في المائة في بيروت، لكن نسبة الامية تصل الى أكثر من 20 في المائة في بعض أحياء طرابلس، مثل القبة، والتبانة، وبعض أحياء المدينة القديمة، وضواحي المدن الفقيرة التي تستضيف السوريين..

  انتشار ظاهرة عمل الأطفال في الشوارع

      أظهر تقييم أجرته "اليونيسف" بالنسبة لعمالة الاطفال اللاجئين في عام 2021، أنّ نسبة الأسر التي أرسلت أطفالها للعمل في لبنان، قد ارتفعت إلى 12 في المئة في تشرين الأول 2021. اما بالنسبة للأسر اللبنانية، فقد ارتفعت  هذه النسبة خلال السنوات الأخيرة لتصل إلى 7 في المئة. 

    وترتفع نسبة عمل الأطفال لدى الأسر اللبنانية في المناطق الفقيرة، حيث أن نسبة الامية بين الاطفال دون سنّ 18 عاماً هي 13 في المائة في لبنان عام 2017..

      كما تزداد نسب الأطفال العاملين في مختلف القطاعات، وبخاصة في الزراعة، وأعمال البناء، وتقديم الخدمات في الأبنية، بالاضافة الى تزايد انتشار الاطفال في الشوارع، أو في محلات تصليح دواليب السيارات، أو في المتاجر والمحلات المنتشرة في الاسواق، أو خدمات المطاعم، وغيرها  لجهة انشاء محلات تجارية صغيرة، و"دكاكين" لبيع الخضار والفاكهة بين الاحياء في المدن (شارع الاوزاعي في الضاحية الجنوبية لبيروت).. بينما تشير بعض التقديرات الى ان عدد الاطفال العاملين في لبنان بات يزيد على 100 ألف طفل.

        ويتبيّن بحسب الدراسة التي أعدتها وزارة العمل اللبنانية، حول  "الأطفال المتواجدون والعاملون في الشوارع في لبنان" عام 2015،  بالتعاون مع "منظمة العمل الدولية"، و"اليونسيف" و"جمعية إنقاذ الأطفال"، فنجد أن "73 في المائة من أطفال الشوارع هم سوريون، و10 في المائة لبنانيون، و8 في المائة من الفلسطينيين. أما الباقون فهم من الأقليات ومعدومي الجنسية".. وتعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها، حيث تم "تقدير عدد الأطفال (المشردين) الذين يعيشون ويعملون في الشوارع بـ"1510 منتشرين في 18 منطقة لبنانية شملتها عينة البحث".

 

     وقد "شكّل الأطفال المنخرطون في التسوّل، غالبية بين الأطفال العاملين في الشوارع، بنسبة  43 في المائة، يليهم الأطفال الذين يعملون كباعة متجولين ونسبتهم 37 في المائة، كما أظهرت النتائج أيضاً، تركّز التسوّل خارج المراكز المدينية الرئيسية، بحيث تشمل ظاهرة التسوّل في البقاع  47 في المائة بين الاطفال العاملين، وفي عكار 37 في المائة...كما أن أكثر من ثلثي الأطفال العاملين في الشوارع هم من الذكور.

    ويتركّز عمل الأطفال في شوارع  المدن الكبرى، خصوصاً في منطقتي بيروت الكبرى وطرابلس.

 وقد سجل في الأولى أعلى نسبة من الأطفال في الشوارع، وهي تتوزع على ثلاثة أحياء: الحمرا، طريق الجديدة، المتحف.

 

الفجوة في التمويل والخسائر يتحملها لبنان

            بالنسبة الى متطلبات التمويل،  يتبيّن بحسب الأرقام الرسمية التي تعلنها المفوضية العليا للاجئين حتى تاريخ 31 كانون اول عام 2022، وجود فجوة كبيرة بين التمويل المطلوب مقارنة بالتمويل المحصّل، ذلك أن مجمل متطلبات التمويل المخصص لتغطية حاجات اللاجئين السوريين في لبنان، قد بلغت للفترة بين 2012 و نهاية 2022، ما مجموعه:  21.7 مليار دولار (لمدة 11 سنة)، بينما نجد ان مجمل الاموال المدفوعة قد بلغت 11.2 مليار دولار (51.6 في المائة)، بحيث بلغت  قيمة الفجوة المالية: 10.5 مليار دولار.. أما الجهات المانحة الرئيسية للأموال، فتشمل بحسب المفوضية 11 دولة أوروبية مع الولايات المتحدة الامريكية والجهات المانحة الخاصة...  

 

      كما يلاحظ على امتداد السنوات ال12 الماضية، أن الفجوة المالية كانت تتزايد نتيجة النقص في التمويل المدفوع من الدول المانحة، والذي بلغ نحو 10 في المائة عام 2012، ثم 47.5 في المائة عام 2014، ليرتفع الى 52.2 في المائة عام 2018، ويبلغ 63.4 في المائة ،أي ما يوازي 2 مليار و 28 مليون دولار لعام 2022 فقط (الشكل المرفق).

    

الكلفة المالية التي يتحملها الاقتصاد اللبناني

      لقد خلّف النزاع في سوريا آثارا ً كارثية على النمو الاجتماعي  والاقتصادي في لبنان، ما أدى  إلى تفاقم حدة الفقر وتدهور الأوضاع الأمنية، وفي هذا الاطار، يمكن التمييز بين نوعين من الكلفة المالية على الاقتصاد اللبناني، المباشرة وغير المباشرة، بحيث أن كلفة النزوح  لغاية العام 2018 بحسب تقرير البنك الدولي، كانت تُناهز الـ18 مليار دولار أميركي وتتركّز في قطاعات الصحة والتربية والطاقة والمياه والزراعة والبيئة، لناحية النفايات الصلبة والصرف الصحي وغيرها، ما أدى الى تدهور الوضع الصحي والتعليمي، واقفال العديد من المدارس ابوابها، وتردي نوعية الخدمات العامة..

       وذلك دون احتساب الأكلاف غير المباشرة أمنياً وتجارياً واجتماعياً بالاضافة الى الخسائر الهائلة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل الخدمات والتجارة والسياحة، وعلى خزينة الدولة نتيجة تراجع النمو.... بحيث  أن الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى توفير مزيد ّ من الوظائف تعادل ستة أضعاف المقدار المتوفر حالياً كي يتمكن من استيعاب الأزمة.

      وهذا الرقم يعادل تقريباً تقديرات الأمن العام ووزارة المال التي تحدّثت عن خسائر مترتبة على لبنان تفوق ال 46 مليار دولار حتى العام 2018 نتيجة النزوح السوري،  في المقابل، لم يتخطَّ إجمالي مساهمة المجتمع الدولي في استجابته لأزمة النزوح السوري مبلغ 12 مليار دولار في 12 عاماً. وهو ما يجعل من لبنان "الدولة المانحة" الأكبر في استجابته لأزمة النزوح السوري.

         في مواجهة تداعيات الأزمة الضخمة والنقص الكبير في التمويل وتزايد التوترات والنزاعات، وبينما يتحمل لبنان العبء الأكبر، لا زالت المفوضية تحذّر النازحين من مخاطر العودة، وهي تعلن بالمقابل، أن الهدف من كل هذا هو "الحفاظ على حماية وكرامة اللاجئين أثناء بقائهم في المنفى المؤقت في لبنان"..  فهي قد أنشأت 79 مركزا مجتمعياً، مع 153 مجموعة مجتمعية موزعة في جميع انحاء لبنان، لتقديم المشورة بشأن تصميم الأنشطة والبرامج حول دعم اللاجئين...

 

الخلاصة

     

  لقد ألقى المجتمع الدولي وبخاصة بلدان الاتحاد الاوروبي، بكامل أعباء أزمة النازحين السوريين على عاتق لبنان، الذي بات يعتبر اليوم بمثابة مخيّم كبير لإقامة النازحين واللاجئين والمهاجرين من البلدان المجاورة، وذلك برغم التداعيات الخطيرة الناجمة عن الاختلال الديموغرافي والخطر الذي يشكله على تفكك البنية السكانية، بعدما بات أكثر من نصف سكانه من اللاجئين والمكتومين وطالبي اللجوء من جنسيات مختلفة، وممن يقيمون ويعملون بطرق غير شرعية،  حيث تنتشر مئات المخيمات العشوائية ، بينما يهاجر اللبناني للبحث عن وطن في الخارج. 

       لهذا كله.. يواجه النازحون السوريون حالياً في لبنان مجموعة من العوائق والتحديات المرتبطة أساساً بضعف آفاق الاندماج في المجتمع المضيف، المكوّن من الفئات المهمّشة والفقيرة في الأحياء المكتظة، والذي بات اليوم على شفير الانهيار بعد أن فقد القدرة على الاستيعاب، نظرا للأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد، وهذا "ما يُعرّض الاستقرار العام لخطر العنف والاضطرابات ويُغذّي خطاب الكراهية حيث ثبت بنتيجة الاستطلاعات أن 61% من التوترات بين المجتمع النازح والمٌضيف ناتج عن التنافس على الوظائف لا سيّما الأقل مهارة" (بحسب ورقة عمل أقرها مجلس الوزراء لتنظيم إدارة ملف النازحين السوريين في لبنان).

 وكذلك بالنسبة الى ازدياد المخاوف محلياً من امكانية تأثر النسيج الاجتماعي للدولة وتغيّر التوازن الطائفي بها، جراء تكاثر أعداد النازحين السوريين، في مقابل تراجع معدل الولادات لدى اللبنانيين وتنافص عددهم. كل هذه العوامل ادت الى تنامي المشاعر المعادية للاجئين، وتضييق آفاق استقرا رهم في لبنان، مما أدى الى تزايد طلبات اللجوء لدى المفوضية، ومحاولات الهجرة غير النظامية عبر الحدود،  وهجرة القوارب في البحر سعياً لطلب اللجوء والاستقرار في الخارج.

 (يتبع في مقالة لاحقة: مخاطر الاقامة الطويلة للنازحين في لبنان).

أزمة اللجوء السوري الطويل الأمد

 

أزمة اللجوء السوري الطويل الأمد

بين الدمج والتوطين في لبنان

 

د. علي فاعور رئيس مركز السكان والتنمية

  الانقسامات السياسية تسهل عمليات الدمج الدائم    

              بعد مضي 12 سنة على بداية الازمة السورية، واستضافة النازحين على الاراضي اللبنانية فقد بات لبنان على شفير الانهيار، بعد ان تحوّل الى رهينة بالكامل بأيدي شبكة واسعة من المنظمات الدولية التي باتت تتحكم بتنظيم وإدارة أزمة لبنان، والتي باتت تصنّف كأكبر أزمة لاجئين في العالم...


       لقد تحوّلت الأراضي اللبنانية الى مربعات مكشوفة بالكامل لتنفيذ كافة عمليات التوزيع والدمج والاختلاط التي تنفذها المنظّمات الدولية، والخرائط العديدة المنشورة حول هذه التوزيعات والعمليات الميدانية تشهد على ذلك، من توزيع المدارس التي تستقبل النازحين في مختلف مراحل التعليم، الى توزيع المستشفيات والمراكز الصحية، ودور الرعاية والحضانة التي تتكفّل برعاية أطفال اللاجئين، الى المراكز المخصصة لتقديم الاستشارة والدعم لتسجيل الولادات والحصول على الاقامة، وتأمين فرص العمل.. الى غير ذلك من أشكال الدمج القائمة في مختلف المناطق اللبنانية، ودون أية مشاركة أو تنسيق مع المؤسسات الحكومية، بحيث تبدو الدولة غائبة عن المتابعة والتنسيق، ما عدا بعض المشاركين من قبل منظمات المجتمع المدني ووزارة الشؤون الاجتماعية، ويكفيهم الحصول على الدعم المالي لمتابعة بعض المشاريع الانسانية في برنامج دعم الاسر الفقيرة......

      

        لقد وضعت الدول المجاورة لسوريا، وفي مقدمتها الأردن وتركيا والعراق محددات وأسس لتنظيم اقامة اللاجئين تحت اشراف الدولة، ووفق القوانين التي تحمي سيادتها، أما لبنان فقد اعتمد سياسة "النأي بالنفس" نتيجة الانقسامات السياسية حول التعامل مع الأزمة السورية، فهو لم ينفذ ما طلبه مجلس الامن عام 2013، ذلك أنه وبعد تزايد عدد اللاجئين والنقص في التمويل، فقد دعا مجلس الأمن لبنان الى "انشاء مؤسسات فاعلة لإدارة ملف النزوح السوري، ومواجهة تداعيات الأزمة وتجاوز الانقسامات الداخلية، وذلك للتوجه الى الدول المانحة وطلب التمويل"..

        لقد ادت الصراعات السياسية والخلافات في التعامل مع ملف النازحين، الى تعطيل الموقف الرسمي، بحيث أن كل شيء تملكه الدولة قد بات تحت سلطة المجتمع الدولي، وبقيادة المفوضية العليا للاجئين، مع شركائها الدوليين من اليونيسيف الى برنامج الغذاء العالمي، وأوكسفام.. وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية، التي تقاسمت كامل التمويل الدولي المخصص لملف اللاجئين، ودون اية مشاركة من الحكومة اللبنانية، التي لا زالت تسعى وتطالب المفوضية بتسليم اللوائح والبيانات المسجلة لديها حول اعداد النازحين وتوزيعاتهم على الاراضي اللبنانية..  

الدول الاوروبية ترفض مبدأ تقاسم المسؤولية

       النتيجة الحاسمة اليوم، كيف يمكن للعالم الغربي التضحية بلبنان من خلال محاصرته بعدد من اللاجئين يفوق عدد سكانه، واستباحة كامل أراضيه وكافة موارده الطبيعية والاقتصادية والبشرية، ثم تحويله الى بلد لاجئين، ان "لبنان قد دفع ثمناً باهظاً نتيجة لكرمه"..

         لقد اتقنت المنظمات الدولية قيادة اللعبة جيداً لحماية حدود أوروبا: المفوضية... اليونسيف.. أوكسفام.. في الحقيقة أن لبنان هو من يساعد أوروبا ويتحمّل وحده أعباء اللاجئين،.. حيث تم استغلال الفرصة  المتمثلة بانهيار السلطة الحاكمة وضعف القدرة على المواجهة والانقسامات السياسية، وجرى استباحة السيادة في دولة صغيرة باعتماد الاسلوب المبني على النظام الاستعماري والنهب المباح.. وهذا  ما يتبيّن عندما صوّت البرلمان الأوروبي، يوم الاربعاء بتاريخ 12 تموز/يوليو عام 2023، على قرار يدعم إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، لا سيّما أنه يحث لبنان ، على الامتناع عن الترحيل وفرض إجراءات تمييزية والتحريض على الكراهية ضد اللاجئين السوريين".

         هذا الموقف المتسرّع يثير التعجب ويدعو للاستغراب في حالة لبنان.. اذا كيف يمكن لدولة صغيرة ان تتحمل وحدها ما تعجز عنه ٢٧ دولة في الاتحاد الأوروبي... ولماذا تفرض قوانين اللاجئين  على دولة لم توقع اتفاقية اللاجئين بينما تتنصّل منها الدول الاوروبية..

 ولماذا ترفض الدول الاوروبية مبدأ تقاسم المسؤولية في تحمل أعباء اللجوء وتطبيق اتفاقية اللاجئين ..

        أسئلة لا تجد صداها اليوم، مع انهيار الدولة اللبنانية التي تعاني من الفراغ الرئاسي، والمحكومة من قبل سلطة فاشلة في الحفاظ على سيادة لبنان..

 

لبنان نحو الهاوية

         في مواجهة أكبر أزمة لاجئين عرفتها دولة صغيرة في العالم، يندفع لبنان الآن بأقصى سرعة نحو الانفجار الداخلي والسقوط الى الهاوية،  حيث تنتشر الفوضى مع تزايد الحوادث الأمنية المتكررة في جميع أنحاء البلاد، وكذلك تفكك الطبقة الوسطى إلى مستويات الفقر المتعدد الابعاد حيث بات أكثر من 80 في المائة  من السكان اللبنانيين  دون مستوى خط الفقر..

       وتعتبر أزمة النزوح السوري بمثابة  أكبر أزمة في التاريخ الحديث، وأكبر أزمة واجهتها المفوضية العليا للاجئين منذ قيامها عام 1950، وأكبر أزمة يواجهها صندوق الأغذية العالمي منذ تأسيسه عام 1962.. وهي أزمة تصنّف بحسب البنك الدولي 2021  "من أشد عشر أزمات، وربما أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينات القرن التاسع عشر"، كما انها من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية.

      لقد سقطت البلاد في الهاوية عندما تم تحويل لبنان إلى خزان بشري ضخم يضم عدة مخيّمات وعشوائيات، تأوي مئات الالاف من اللاجئين والنازحين والمكتومين، والمهاجرين غير الشرعيين، مع عشرات الالاف من عديمي الجنسية في لبنان من مختلف الجنسيات،  لقد أصبح الوضع كارثي بعد مضي أكثر من 12 سنة علي بداية النزوح السوري.. حيث يضم لبنان الآن أعلى نسبة احتضان للاجئين في العالم، سواء بالنسبة للفرد أو لمساحة الأرض. فقد بدأت التوترات تبرز في بلدان أوروبا عندما استقبلت ما يعادل 2٪ إلى 3٪ من سكانها كلاجئين، حيث تتنقل الاحداث الامنية  من بلد لآخر مما دفع أوروبا لتشديد الاجراءات الأمنية على الحدود لمنع اللاجئين من الدخول الى بلدان الاتحاد الاوروبي..

      بينما بالمقابل فان أكثر من نصف سكان لبنان باتوا من اللاجئين والنازحين، حيث يسود التعطيل والفراغ الطويل، كما يبرز الشلل في المؤسسات الرئيسية الثلاث: حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات كبرى ، وبرلمان عاجز عن انتخاب رئيس للبلاد، حيث يسود فراغ كامل بانتظار المساعي الدولية.   

        كل هذا ادى الى اضعاف الدولة وتفكك البنية السكانية، وانتشار الفساد والفوضى وبروز تصدّعات وانكسارات في هيكلية المؤسسات العامة التي فقدت دورها في الرقابة والمحاسبة ومحاربة الفساد..

  لقد وصل لبنان اليوم الى حافة الانهيار، فهو في مواجهة أزمة مالية غير مسبوقة، كما أنه لا يملك ما يكقي من العملة الصعبة لاستيراد القمح والدواء والمحروقات..

 

الصراع على البقاء والعيش والتوترات الأمنية  

        لقد ادى تراكم الأزمات إلى دفع أعداد متزايدة من اللبنانيين إلى الفقر المدقع، حيث بدأت مرحلة الصراع على البقاء وسبل العيش لمواجهة الغلاء الفاحش ونقص الموارد والتنافس للوصول الى لقمة العيش، كما أدى فقدان الوظائف والانهيار المالي ثم تراجع القوة الشرائية إلى قيام احتجاجات واسعة، وبروز شكاوى وصدامات بين اللبنانيين في المجتمعات المضيفة، واللاجئين الذين تتكفل بهم المنظمات الدولية وتؤمن لهم كافة متطلبات الغذاء والصحة والمأوى ورعاية الاطفال، والرعاية الطبية والمياه النظيفة ودعم التعليم والمشورة بشأن الصدمات والملابس ونوعية الحياة..

       ومع تفاقم الأزمة المعيشية، فقد بدأت تتحوّل الأحداث إلى أعمال عنف ومواجهات، واشتباكات امنية متنقلة وسط تفلت أمني اجتماعي وتوترات في مناطق متعددة، وبخاصة في مخيمات اللاجئين، وهي قد تكون بمثابة صورة مسبّقة للانقسامات السياسية العميقة بين الأحزاب المتنافسة، لضرب استقرار لبنان، مما قد يؤدي الى تفكك بنية الدولة ومؤسساتها.

      وهذا ما برز مؤخراً، مع تدهور الاوضاع الامنية التي انفجرت في مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين يوم السبت في 29 تموز 2023، وهو يمثل اكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان (أكثر من 70 ألف لاجئ)، فقد انتشرت مخاوف من "محاولات استخدام الساحة اللبنانية لتصفية الحسابات الخارجية"، وتمدد الأحداث الأمنية مع تصاعد التوتر الى بقية مخيّمات اللاجئين والنازحين، وهذا ما دفع بعض السفارات العربية (السعودية والكويت والبحرين وسلطنة عمان وقطر والامارات..)، والأجنبية (ألمانيا وبلجيكا.....)، الى تحذير مواطنيها من مخاطر توسع الاحداث الامنية في لبنان...

دفع لبنان ثمنًا باهظًا نتيجة لكرمه     

    في عام 2013، وقبل عشر سنوات،  قالت آن ريتشارد، مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، لشؤون السكان واللاجئين والهجرة في وزارة الخارجية، "ليس هناك الآن أي قرية أو مدينة واحدة في لبنان لم تتأثر بوجود اللاجئين السوريين". ويعادل تدفق اللاجئين إلى لبنان الصغير تدفق 75 مليون انسان- أو ضعفي عدد سكان كندا - إلى الولايات المتحدة. وأضافت (خلال مناقشات جرت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2013 في مركز ويلسون للأبحاث في واشنطن)، "إن التزام لبنان الثابت بالمبدأ الإنساني الدولي للحماية يخدم كمثال للمنطقة". ولكنها لاحظت أن لبنان "دفع ثمنًا باهظًا نتيجة لكرمه."

        لقد أفادت دراسة حديثة للبنك الدولي عام 2013،  أنه منذ بداية الأزمة السورية ، دفع 170 ألف لبناني إضافي إلى براثن الفقرومع ذلك ، "فتحت الحكومة اللبنانية مستشفياتها وعياداتها للاجئين السوريين وسمحت للأطفال اللاجئين بالتسجيل في مدارسها المكتظة بالفعل" ، على حد قول ريتشارد. لكن التداعيات كانت كبيرة جداً، ذلك ان البنية التحتية للبنان قد انهارت تحت العبء

       كما ان مساعدات الاغاثة الطارئة التي تمكنت من حماية اللاجئين السوريين، لم تأخذ بالاعتبار احتياجات التنمية الطويلة المدى مما ادى الى توريط لبنان في دوامة من عدم الاستقرار الناجم عن الانهيار الاقتصادي والصراع الاجتماعي الناتج عن تدفق اللاجئين..

        كما انه وبدلا من أن يهتم المجتمع الدولي والامم المتحدة، ولا سيّما مجموعة الدعم الدولية للبنان، بدعم جهود الحكومة اللبنانية خلال هذه الأزمة، ومساعدتها لتقييم الاحتياجات ووضع "خارطة طريق" للتدخلات لتوجيه استجابة المجتمع الدولي، نجد انه تتم محاصرة لبنان لمنع استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن نتيجة العقوبات المفروضة على سوريا والتي يتم تطبيقها على لبنان الغارق في أكبر أزمة لاجئين من تدبير وصنع المجتمع الدولي، مما ادى الى تراكم الأعباء الاقتصادية والمالية الناجمة عن النزوح السوري، حيث أعلن لبنان ، عن قراره بالتخلف عن سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار في 9 آذار/مارس 2020 ، وذلك في خطوة غير مسبوقة لبلد لم يتخلف عن سداد ديونه من قبل..

 

    تنفيذ عمليات الدمج المحلي للنازحين باعتباره حلاً دائماً       

 

ثلاثة خيارات امام اللاجئين السوريين     

          توجد ثلاثة خيارات في الاستجابة لأزمة اللاجئين، وهي تتضمن: خيار العودة اولاً، ثم خيار إعادة التوطين في بلد ثالث، وأخيراً خيار الدمج المحلي في البلد المضيف...

          وهذا ما يحدث في لبنان حيث يتم تطبيق مختلف اشكال الدمج المحلي وهو المسار الثالث،  بعد رفض المجتمع الدولي مقاربة الأزمة في اطار شمولي، أي كجزء من استجابة عالمية أوسع  تراعي الحلّين الدائمين الآخرين، وهما خيار العودة الأمنة  وإعادة التوطين في بلد ثالث.

        فضلاً عن ذلك، تعطيل كافة محاولات عودة النازحين السوريين في لبنان، وكذلك فشل المفوضية في تطبيق مبدأ تقاسم المسؤولية بالنسبة لمشاركة الدول الكبرى في تحمّل قسطاً من الأعباء في استضافة اللاجئين المتواجدين على اراضي الدولة المضيفة  في أوضاع اللجوء الممتد..

 

لبنان في مواجهة اللجوء الدائم     

       يُعتبر وضع اللجوء الممتدّ،  بحسب تعريف مفوضية شؤون اللاجئين، بمثابة الوضع" الذي يعيش فيه 25ألف لاجئ أو أكثر من الجنسية نفسها في المنفى لخمس سنوات متتالية أو أكثر في بلد لجوء معيّن"” )مفوضية شؤون اللاجئين  عام 2018 ).

اما في حالة لبنان، فقد دخل مرحلة اللجوء الطويل الأمد حيث لا زال المجتمع الدولي يُعارض عودة النازحين السوريين ويضع العراقيل امام محاولات العودة الأمنة التي بدأ لبنان بتنفيذها منذ عام 2017.

        ومنذ أكثر من خمس سنوات يحاول لبنان تنظيم قوافل اعادة النازحين وفق خطة العودة الأمنة والطوعية، التي ينظمها الأمن العام، لكن غالبية الذين شملتهم قوافل العودة، فضلوا الرجوع الى لبنان عبر المعابر غير الشرعية.. وذلك طمعاً بالمساعدات التي توفرها لهم المنظمات الدولية التي لا زالت تعارض محاولات اعادة النازحين باعتبار ان الأوضاع الأمنية والاقتصادية في سوريا لا زالت غير مستقرة..

       ويتبيّن على ضوء الواقع القائم، أن  سنوات الفترة الأخيرة منذ بداية العام 2023، قد شهدت موجات كثيفة من المهاجرين السوريين عبر المعابر البرية وبطرق غير شرعية، وغالبية الوافدين من الشباب الباحثين عن فرص عمل وموارد العيش والمأوى، وذلك نتيجة الازمة الاقتصادية الخانقة والحصار المفروض على سوريا، وبعدما وصلتهم من أقاربهم أخبار المساعدات الممكن الحصول عليها في لبنان.. بينما بالمقابل تتواصل هجرة الشباب اللبناني الى الخارج للبحث عن الجنسية وفرص العمل..

  هكذا وبينما تتواصل موجات القادمين غبر المعابر البرية، تبدو الدولة عاجزة كلياً في مواجهة اللجوء السوري الدائم، وبانتظار استعادة دورها وامكاناتها.. واسترجاع سيادتها أمام المجتمع الدولي، وهذا سيحتاج إلى سنوات طويلة..

بينما بالمقابل تتسارع التحوّلات الديموغرافية على الاراضي اللبنانية، بين هجرات وافدة وهجرات مغادرة، والسنوات القليلة القادمة سوف تغير وجه لبنان.. والى الأبد.