Saturday, October 14, 2023

 

كيف يمكن للاجئين السوريين دعم الاقتصاد اللبناني


النزوح السوري  الطويل الأمد

     من نتائج النزوح السوري  الطويل الأمد، وتزايد أعداد النازحين في لبنان منذ ١٢ سنة، أنه استفاد منه الأغنياء والتجار على كافة المستويات، ما أدى الى تغذية النموذج الاقتصادي اللبناني لجهة تزايد  الارباح التي تجنيها الشركات والمؤسسات التجارية والصناعية والسياحية على اختلافها، من استخدام اليد العاملة السورية الرخيصة بدلا من اليد العاملة اللبنانية، ما ادى الى افادة اثرياء المدن الكبرى، بينما فقدت المناطق الريفية والبلدات الصغيرة والمتوسطة صناعاتها ودينامياتها، لعدم القدرة على الاستمرار والمنافسة ...

      وبينما تتوفّر بعض التقديرات حول تأثير اللاجئين على الاقتصاد في البلدان المضيفة المجاورة لسوريا، يلاحظ عدم وجود معطيات لتأثيرهم على الاقتصاد في لبنان، ويرجع ذلك في الغالب إلى ندرة البيانات والمعلومات الاحصائية المتوفرة لدى المؤسسات الرسمية  والوزارات المعنية (وزارة الداخلية والبلديات، وزارة العمل، وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الاقتصاد..)، ما أدى الى عدم معرفة الرقم الحقيقي لعدد اللاجئين المتواجدين على الاراضي اللبنانية، وتوزيعاتهم من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، وغيرهم من المكتومين والمهاجرين وغير اللبنانيين، ممن تزيد أعدادهم على نصف السكان المقيمين في لبنان.


 من تنظيم الوجود الى تنظيم العودة

       ولتفادي هذا الفراغ في البيانات الرسمية، مما يُعيق عملية تنظيم عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، فقد أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي رأياً لوضع حل شامل في مواجهة أزمة وجودية، تحت عنوان "من تنظيم الوجود إلى تنظيم العودة دعا فيه البلديَّات واتِّحاداتِ البلديات، الى الحصول على بيانات احصائية دقيقة، واجراء مسح شامِل لأَعداد النازحين السوريين، مع جداول اسمية بأعداد الذين بامكانهم العودة، وتصنيف الآخرين ممن توجد عقبات تؤخر العودة (امنية، قانونية، اجتماعية). وكذلك رصد حالات التهريب والدخول غير الشرعي عبر الحدود، وانجاز تصنيف علمي يميّز "العامل السوري من النازح السوري"، ثم اطلاق عملية تسجيل كل الولادات بين النازحين. واعداد ملف ديبلوماسي متكامل لرفع قضية النزوح السوري الى كافة المراجع الدولية..

          كما أشارت معظم الدراسات الى أنه برغم الأعباء الجسيمة التي يفرضها استهلاك اللاجئين لكافة خدمات البنية التحتية (المياه والصرف الصحي.. الرعاية الصحية والمدارس) والبيئة، ناهيك عن المنافسة على الوظائف المحدودة، وممارسة النشاطات التجارية وافتتاح المؤسسات الاقتصادية المتنوّعة في البلد المضيف..  ما أدى الى نشوء المنافسة في العمل وزيادة التوترات والصراعات داخل المجتمعات المضيفة، ثم ارتفاع مستوى البطالة، وانتشار الفقر وانعدام الامن الغذائي بين المجتمعات اللبنانية واللاجئين على حد سواء..

   بينما في مجال آخر، يوفر النزوح السوري الكثير من الفرص الاقتصادية، وذلك من خلال مشاركة النازحين في العديد من المهن والنشاطات الاقتصادية التي تحتاج الى اليد العاملة وبخاصة من ذوي المهارات، وبالتالي فهم يساهمون في تقدم الاقتصاد المحلي..

        اما فيما يتعلق ببعض التقديرات حول التأثير الاقتصادي الذي يخلّفه اللاجئون في البلدان المجاورة، ولا سيّما لبنان، فقد وجد برنامج الأمم المتحدة الشامل والمفوضية العليا للاجئين في دراسة اجريت عام 2015، أن:" كل دولار تمّ إنفاقه على المساعدة الإنسانية كان له تأثير مضاعف وإيجابي قدره 1.6 دولار في الاقتصاد المحلي"، وان كل ما قدمه من المساعدات الإنسانية كان له تأثير مضاعف وإيجابي في الاقتصاد المحلي..

حيث توزعت المساعدات وفق الآتي: ان 44%  من المساعدات قُدمت بشكل تحويلات نقدية للنازحين، سيّما البطاقات الغذائية، مقابل 40% مشتريات عينية، و 14% تم إنفاقها على دفع أجور العاملين في القطاع الإنساني في لبنان.

 الأعباء يتحملها الفقراء

     أما بخصوص دراسة المكاسب والخسائر الاقتصادية لدى المجتمعات المضيفة، فقد تم اجراء مسح موسع[1] ، يشمل "مسح الحالة المعيشية للاجئين والمجتمعات المضيفة في لبنان"، وهو مسح أجراه المركز اللبناني للدراسات والمركز السوري لبحوث السياسات في عام 2018، في ثلاث مدن متوسطة الحجم تضم اعداد كبيرة من النازحين السزريين في لبنان، وهي: صيدا وزحلة وحلبا.

       حيث تم التوصل الى نتائج تؤكد استفادة الاقتصاد المحلي من القدرات المتوفرة لدى النازحين، علماً أنها تسبّبت أيضاً: "بتفاقم عدم المساواة في البلاد، حيث تستفيد الفئات ذات الدخل المرتفع بينما يتحمل العبء الأكبر بعض المواطنين الأكثر فقراً". لهذا فقد كان من الضروري اعادة تقييم الاجراءات المعتمدة، واعطاء الأولوية لتقدّيم نتائج الدعم اللازم للفئات الضعيفة، والتي كانت الأكثر تضرراً من تدفقات النازحين، وذلك من أجل التخفيف من آثارها السلبية، بحيث لا يزداد التفاوت في الدخل كنتيجة لأزمة اللاجئين.

       وخلال السنوات الماضية، فقد أًعدت عدة دراسات استفصائية حول التداعيات الاقتصادية لمشاركة اللاجئين في المجتمعات المضيفة، والأثار الناجمة عنها، حيث اختلفت النتائج بحسب الفترة الزمنية للجوء.  فعلى المدى القصير، وتشمل اقامة النازحين من سنتين الى خمس سنوات، فقد برزت زيادات واضحة في تكلفة الغذاء وحصة الانفاق بين النازحين، ولا سيّما زيادات في الطلب على الإيجار، اذ شهد سوق ايجار المنازل الزيادات الأكبر، وبخاصة في حلبا - عكار حيث حصلت زيادة بمقدار أربعة أضعاف، لذلك، استفاد أصحاب الأملاك وتحسن وضعهم المالي بشكل كبير نتيجةً للطلب المتزايد على الشقق المستأجرة، وهذا بالمقابل ما أثر سلباً على اوضاع المستأجرين اللبنانيين.....

 نزوح السكان المحليين

      أما بالنسبة الى مخرجات سوق العمل، فتميل النتائج الإجمالية إلى إظهار تأثيرات محايدة أو صغيرة على معدلات التوظيف أو الأجور في المجتمعات المحلية .. مع وجود خسائر في التوظيف بين الأفراد ذوي المهارات المتدنية والأقل خبرة، لا سيّما في القطاع الهامشي وغير المنظم.

كما تشير النتائج إلى "التسبّب على المدى القصير بنزوح السكان المحليين ذوي المهارات المنخفضة

الذين يعملون في القطاع غير النظامي، وذلك نتيجة المنافسة في سوق العمل، إذ لديهم مهارات مماثلة للنازحين "..

       هذا بالإضافة الى ارتفاع الكلفة بالنسبة للخدمات الاساسية الأخرى، ولا سيّما النقل والصحة، والتعليم والسكن...بحيث "أن قدوم اللاجئين خلق زيادات كبيرة في الطلب على المنازل المعدّة للتأجير، لا سيّما في حلبا، ويعود هذا الطلب الإضافي بالفائدة على أصحاب الأملاك الذين نجحوا في استقطاب مستأجرين جدد وحتى في رفع بدل الإيجار، وتُظهر التقديرات على المستوى الوطني أن سوق الإيجارات للنازحين يدرّ عائدات تبلغ حوالي 50 مليون دولار كل عام لأصحاب العقارات من اللبنانيين"[2].

  استفادة اصحاب المؤسسات والمراكز التجارية    

 اما حول التأثير الإجمالي للنازحين اقتصاديا على المدى الطويل، ولمدة أكثر من عشر سنوات، فيبرز التفاوت الشاسع بين من يستفيد من وجود النازحين، وبخاصة فئة الأغنياء والتجار وأصحاب المؤسسات الصناعية والمراكز السياحية، وفي المقابل هناك من يتحمل التكاليف الناجمة عن مشاركة النازحين في المجتمعات المضيفة حيث تقع الأعباء على عاتق الفقراء، نتيجة المنافسة بين اللاجئين من جميع مستويات المهارة والعاملين المحليين من ذوي المهارات المتدنية في القطاع غير النظامي، "ومن المحتمل أن تزيد هذه القيود من الآثار السلبية على الفئات الضعيفة اقتصادياً"، ما يؤدي الى التنافس على موارد العيش ونشوء التوترات والصراعات الداخلية..

         لقد شكّلت اليد العاملة السورية عمالة منخفضة الأجر استفاد منها أصحاب المؤسسات والمراكز التجارية، مما أدى الى خفض الاكلاف، وبالمقابل بزيادة أرباحهم  في قطاعَي البناء والزراعة، وهما القطاعان اللذان يؤمنان عمل لأكبر عدد من النازحين.. ففي قطاع البناء مثلاً ترتفع اعداد النازحين، ومعظمهم من العمال المياومين، بينما يلاحظ بالمقابل أن معظم أصحاب المهارات العالية، مثل المدراء والمهندسين المدنيين هم من اللبنانيين، كذلك الحال بالنسبة الى قطاع الزراعة..

 اعادة النظر في السياسات والانتهاكات القائمة

       وعلى الرغم من قلة البيانات المتوفرة حول تأثير النازحين على التوظيف والأجور في لبنان، فقد أظهرت النتائج العامة أن التأثير الاقتصادي السلبي لتزايد أعداد النازحين، تتحمله الفئات الفقيرة من العمال اللبنانيين من ذوي المهارات المنخفضة في قطاعي الزراعة والبناء، وهي الأكثر تضرراً من وجود النازحين،  كنتيجة للمنافسة في أسواق العمل، حيث ترتفع نسبة البطالة وينتشر الفقر بين اللبنانيين.

        وهذا يستوجب اعتماد سياسات  فعّالة لتقييم تأثير تدفق النازحين، حيث يوجد تفاوت كبير وتباين في مستويات المعيشة بين المناطق الجغرافية  التي استقبلت النازحين السوريين، وتبرز الآثار السلبية في كافة مناطق البقاع مع تزايد حجم النازحين في الأراضي الأقرب الى ممرات العبور عبر الحدود البرية مع سوريا، وبخاصة على امتداد حوض الليطاني الذي يمثل نحو 20 في المائة من مساحة لبنان، وحوض العاصي في الشمال، وكذلك في ضواحي المدن الفقيرة والمكتظة بالسكان مثل طرابلس وصيدا والأحياء الفقيرة في ضواحي بيروت..

     مما يتطلب من الجهات المانحة الدولية، وجماعات الإغاثة، والجمعيات التي تتولى توزيع المساعدات في لبنان، إلى النظر عن كثب في تقييم الحقائق الميدانية على الارض، لصالح الجميع في بلد مضطرب للغاية، فهو يعيش أشد الأزمات خطورة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع تزايد عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يتطلب تسهيل خطة عودة النازحين السوريين من لبنان الى سوريا، وذلك تتويجاً لسنوات من الضغط السلبي على كافة الموارد الطبيعية والاقتصادية  في لبنان، البلد الذي وصل إلى نقطة الانهيار، فهو لا يستطيع استيعاب المزيد من النازحين، كما أنه يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم مقارنة بعدد السكان، وكذلك بالنسبة الى مساحة الأرض.

    

الفجوات الحالية في الموقف الدولي

    كل هذا يستوجب اليوم، وبعد مضي اكثر من 12 سنة على استضافة النازحين، اعادة النظر في السياسات المتبعة، وتعديل الاجراءات التي تعتمدها المفوضية العليا للاجئين بالنسبة لعرقلة خطة العودة وتشجيع النازحين على البقاء في لبنان، من خلال الدفع النقدي والانمائي، ولا سيّما توفير الدعم وتأمين الحماية للنازحين على حساب اللبنانيين..

      مخيّم للنازحين السوريين في منطقة حوض الليطاني في البقاع

وكذلك لجهة حصول لبنان على المزيد من الأموال من خلال زيادة المساعدات الدولية  لتنظيم اقامة النازحين المنتشرين في العشوائيات وكافة المدن والأراضي اللبنانية، واعطاء الأولوية لاعادة تطوير البنية التحتية المنهارة لجهة النقص الكبير في المياه، وتدهور شبكات الصرف الصحي، ما ادى الى انتشار التلوّث والأمراض، وبخاصة في أحواض الأنهار وعلى امتداد الآراضي القريبة من الحدود مع سوريا، ثم توجيه الدعم الأساسي نحو المجتمعات المضيفة للنازحين، وهي تضم الأسر الأكثر فقراً، والأكثر تضرراً بالنسبة للمشاركة في سبل العيش، والأكثر حاجة بالنسبة للحماية الفعلية لتأمين الرعاية الصحية والمدارس وتأمين الكهرباء ، وحتى لا تتحوّل سياسة حماية النازحين ومنعهم من العودة من خلال الاغراءات التي تًقدم لهم، الى تشكيل بيئة معادية بشكل متزايد للاجئين،  وذلك نتيجة السياسة التي ينفذها المجتمع الدولي في لبنان اليوم، ما يؤدي الى حدوث نتائج عكسية، نتيجة الصدامات والتوترات في أسواق العمل والبيئة المضيفة، ينجم عنها تنفيذ سياسة دمج النازحين في كافة المجالات، ثم ترحيل العمال الأصليين وتهجير اللبنانيين في البحر.. ودفعهم مع السوريين والفلسطينيين، للقيام  برحلات خطيرة في "قوارب الموت" عبر البحر المتوسط، ما أدى الى غرق ووفاة المئات منهم، وهم في محاولات يائسة للوصول إلى بلدان أوروبا التي تكتفي بمحاصرة اللاجئين في الدول الصغيرة من خلال دمجهم في المجتمعات المحلية، كما يحصل بالنسبة للاوضاع السيئة والصعبة للاجئين السوريين في لبنان، ثم تقديم الوعود بالمساعدات من الدول المانحة، وتوجيه الانذارات بين الحين والآخر، وترفض المشاركة في تحمل المسؤولية من خلال استقبال اللاجئين، وتفضل تقديم المساعدات الضئيلة لإبعادهم عن حدودها، بسبب سياساتها المناهضة للاجئين والمهاجرين، وبشكل مخالف للقوانين الدولية التي ترعى حقوق اللاجئين، وبخاصة بالنسبة للميثاق العالمي للأمم المتحدة  بشان اللاجئين لعام 2018..

 

حول الأهداف المرسومة لمستقبل لبنان

    وعلى الرغم من الوعود المتكررة في المؤتمرات الدولية لدعم سوريا وفرض حقوق اللاجئين، والتي لم يتم الالتزام بها، مع مواصلة الدول الأكبر والأكثر ثراء التخلي عن مسؤولياتها في استقبال المزيد من اللاجئين.  يتواصل ضغط المجتمع الدولي طيلة السنوات الماضية،  لمحاصرة لبنان ومنع اعادة النازحين السوريين او المشاركة في اعادة توطينهم في بلد ثالث، كما تنص القوانين الدولية، وذلك في غياب السلطة العاجزة عن حماية السيادة الوطنية، نتيجة الانقسامات السياسية والصراع على الحصص والفراغ في الحكم.

  اما المساعدات الضئيلة  الداعمة لبقائهم في لبنان واطالة فترة اللجوء،  فهي بمثابة شريان الحياة المساعد في البقاء والصمود، لكنها وحدها غير كافية لتحقيق الاندماج الكامل، فهي تهدف إلى تلبية الاحتياجات قصيرة الأجل، بينما هي بالغة الخطورة في بلد متعدد الطوائف، كونها تعمل على تعديل النسيج الاجتماعي القائم لجهة الخلل في التوازن وتغيير البنية الديموغرافية في لبنان.

 بناء عليه، ونتيجة تكاثر اعداد النازحين السوريين، والتدفقات العابرة للحدود بطرق غير شرعية، وتزايد اعداد غير المجنسين.. تتجه الأنظار للتحولات الديموغرافية الكبيرة في السنوات القليلة القادمة، حيث ما زلنا بحاجة إلى فهم أكثر دقة لكشف الاهداف المرسومة لهذا التغيير الديموغرافي الواسع، من خلال سياسة الدمج القائمة للنازحين واللاجئين في كافة المجالات على الاراضي اللبنانية، وبرعاية أممية تنفذها بلدان الاتحاد الاوروبي وبدعم أميركي، مما ادى الى تحويل لبنان الى بلد لاجئين نتيجة التغييرات العميقة في التركيب السكاني واعادة تكوين المجتمع اللبناني.

 



[1]  مسح أجراه المركز اللبناني للدراسات (LCPSحول "تحوّل النازحين السوريين من مجرّد عبء إلى مساهمين فاعلين في الاقتصاد المحلي في لبنان"، في حزيران 2021، اعداد دانيال كاروت سانشيز...... حيث غطّى المسح الميداني 1.556 أسرة  و 7.208 فرداً  (شمل 4.368 سوريا و 2.882 لبنانيا) ليكونوا عيّنة تمثيلية لسكان ثلاث بلديات لبنانية، استقبلت عدداً كبيراً من النازحين السوريين منذ عام 2011، وهي صيدا وزحلة وحلبا..

 

[2]  مرجع سابق.. صفحة  10.