Saturday, October 14, 2023

 

كيف يمكن للاجئين السوريين دعم الاقتصاد اللبناني


النزوح السوري  الطويل الأمد

     من نتائج النزوح السوري  الطويل الأمد، وتزايد أعداد النازحين في لبنان منذ ١٢ سنة، أنه استفاد منه الأغنياء والتجار على كافة المستويات، ما أدى الى تغذية النموذج الاقتصادي اللبناني لجهة تزايد  الارباح التي تجنيها الشركات والمؤسسات التجارية والصناعية والسياحية على اختلافها، من استخدام اليد العاملة السورية الرخيصة بدلا من اليد العاملة اللبنانية، ما ادى الى افادة اثرياء المدن الكبرى، بينما فقدت المناطق الريفية والبلدات الصغيرة والمتوسطة صناعاتها ودينامياتها، لعدم القدرة على الاستمرار والمنافسة ...

      وبينما تتوفّر بعض التقديرات حول تأثير اللاجئين على الاقتصاد في البلدان المضيفة المجاورة لسوريا، يلاحظ عدم وجود معطيات لتأثيرهم على الاقتصاد في لبنان، ويرجع ذلك في الغالب إلى ندرة البيانات والمعلومات الاحصائية المتوفرة لدى المؤسسات الرسمية  والوزارات المعنية (وزارة الداخلية والبلديات، وزارة العمل، وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الاقتصاد..)، ما أدى الى عدم معرفة الرقم الحقيقي لعدد اللاجئين المتواجدين على الاراضي اللبنانية، وتوزيعاتهم من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، وغيرهم من المكتومين والمهاجرين وغير اللبنانيين، ممن تزيد أعدادهم على نصف السكان المقيمين في لبنان.


 من تنظيم الوجود الى تنظيم العودة

       ولتفادي هذا الفراغ في البيانات الرسمية، مما يُعيق عملية تنظيم عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، فقد أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي رأياً لوضع حل شامل في مواجهة أزمة وجودية، تحت عنوان "من تنظيم الوجود إلى تنظيم العودة دعا فيه البلديَّات واتِّحاداتِ البلديات، الى الحصول على بيانات احصائية دقيقة، واجراء مسح شامِل لأَعداد النازحين السوريين، مع جداول اسمية بأعداد الذين بامكانهم العودة، وتصنيف الآخرين ممن توجد عقبات تؤخر العودة (امنية، قانونية، اجتماعية). وكذلك رصد حالات التهريب والدخول غير الشرعي عبر الحدود، وانجاز تصنيف علمي يميّز "العامل السوري من النازح السوري"، ثم اطلاق عملية تسجيل كل الولادات بين النازحين. واعداد ملف ديبلوماسي متكامل لرفع قضية النزوح السوري الى كافة المراجع الدولية..

          كما أشارت معظم الدراسات الى أنه برغم الأعباء الجسيمة التي يفرضها استهلاك اللاجئين لكافة خدمات البنية التحتية (المياه والصرف الصحي.. الرعاية الصحية والمدارس) والبيئة، ناهيك عن المنافسة على الوظائف المحدودة، وممارسة النشاطات التجارية وافتتاح المؤسسات الاقتصادية المتنوّعة في البلد المضيف..  ما أدى الى نشوء المنافسة في العمل وزيادة التوترات والصراعات داخل المجتمعات المضيفة، ثم ارتفاع مستوى البطالة، وانتشار الفقر وانعدام الامن الغذائي بين المجتمعات اللبنانية واللاجئين على حد سواء..

   بينما في مجال آخر، يوفر النزوح السوري الكثير من الفرص الاقتصادية، وذلك من خلال مشاركة النازحين في العديد من المهن والنشاطات الاقتصادية التي تحتاج الى اليد العاملة وبخاصة من ذوي المهارات، وبالتالي فهم يساهمون في تقدم الاقتصاد المحلي..

        اما فيما يتعلق ببعض التقديرات حول التأثير الاقتصادي الذي يخلّفه اللاجئون في البلدان المجاورة، ولا سيّما لبنان، فقد وجد برنامج الأمم المتحدة الشامل والمفوضية العليا للاجئين في دراسة اجريت عام 2015، أن:" كل دولار تمّ إنفاقه على المساعدة الإنسانية كان له تأثير مضاعف وإيجابي قدره 1.6 دولار في الاقتصاد المحلي"، وان كل ما قدمه من المساعدات الإنسانية كان له تأثير مضاعف وإيجابي في الاقتصاد المحلي..

حيث توزعت المساعدات وفق الآتي: ان 44%  من المساعدات قُدمت بشكل تحويلات نقدية للنازحين، سيّما البطاقات الغذائية، مقابل 40% مشتريات عينية، و 14% تم إنفاقها على دفع أجور العاملين في القطاع الإنساني في لبنان.

 الأعباء يتحملها الفقراء

     أما بخصوص دراسة المكاسب والخسائر الاقتصادية لدى المجتمعات المضيفة، فقد تم اجراء مسح موسع[1] ، يشمل "مسح الحالة المعيشية للاجئين والمجتمعات المضيفة في لبنان"، وهو مسح أجراه المركز اللبناني للدراسات والمركز السوري لبحوث السياسات في عام 2018، في ثلاث مدن متوسطة الحجم تضم اعداد كبيرة من النازحين السزريين في لبنان، وهي: صيدا وزحلة وحلبا.

       حيث تم التوصل الى نتائج تؤكد استفادة الاقتصاد المحلي من القدرات المتوفرة لدى النازحين، علماً أنها تسبّبت أيضاً: "بتفاقم عدم المساواة في البلاد، حيث تستفيد الفئات ذات الدخل المرتفع بينما يتحمل العبء الأكبر بعض المواطنين الأكثر فقراً". لهذا فقد كان من الضروري اعادة تقييم الاجراءات المعتمدة، واعطاء الأولوية لتقدّيم نتائج الدعم اللازم للفئات الضعيفة، والتي كانت الأكثر تضرراً من تدفقات النازحين، وذلك من أجل التخفيف من آثارها السلبية، بحيث لا يزداد التفاوت في الدخل كنتيجة لأزمة اللاجئين.

       وخلال السنوات الماضية، فقد أًعدت عدة دراسات استفصائية حول التداعيات الاقتصادية لمشاركة اللاجئين في المجتمعات المضيفة، والأثار الناجمة عنها، حيث اختلفت النتائج بحسب الفترة الزمنية للجوء.  فعلى المدى القصير، وتشمل اقامة النازحين من سنتين الى خمس سنوات، فقد برزت زيادات واضحة في تكلفة الغذاء وحصة الانفاق بين النازحين، ولا سيّما زيادات في الطلب على الإيجار، اذ شهد سوق ايجار المنازل الزيادات الأكبر، وبخاصة في حلبا - عكار حيث حصلت زيادة بمقدار أربعة أضعاف، لذلك، استفاد أصحاب الأملاك وتحسن وضعهم المالي بشكل كبير نتيجةً للطلب المتزايد على الشقق المستأجرة، وهذا بالمقابل ما أثر سلباً على اوضاع المستأجرين اللبنانيين.....

 نزوح السكان المحليين

      أما بالنسبة الى مخرجات سوق العمل، فتميل النتائج الإجمالية إلى إظهار تأثيرات محايدة أو صغيرة على معدلات التوظيف أو الأجور في المجتمعات المحلية .. مع وجود خسائر في التوظيف بين الأفراد ذوي المهارات المتدنية والأقل خبرة، لا سيّما في القطاع الهامشي وغير المنظم.

كما تشير النتائج إلى "التسبّب على المدى القصير بنزوح السكان المحليين ذوي المهارات المنخفضة

الذين يعملون في القطاع غير النظامي، وذلك نتيجة المنافسة في سوق العمل، إذ لديهم مهارات مماثلة للنازحين "..

       هذا بالإضافة الى ارتفاع الكلفة بالنسبة للخدمات الاساسية الأخرى، ولا سيّما النقل والصحة، والتعليم والسكن...بحيث "أن قدوم اللاجئين خلق زيادات كبيرة في الطلب على المنازل المعدّة للتأجير، لا سيّما في حلبا، ويعود هذا الطلب الإضافي بالفائدة على أصحاب الأملاك الذين نجحوا في استقطاب مستأجرين جدد وحتى في رفع بدل الإيجار، وتُظهر التقديرات على المستوى الوطني أن سوق الإيجارات للنازحين يدرّ عائدات تبلغ حوالي 50 مليون دولار كل عام لأصحاب العقارات من اللبنانيين"[2].

  استفادة اصحاب المؤسسات والمراكز التجارية    

 اما حول التأثير الإجمالي للنازحين اقتصاديا على المدى الطويل، ولمدة أكثر من عشر سنوات، فيبرز التفاوت الشاسع بين من يستفيد من وجود النازحين، وبخاصة فئة الأغنياء والتجار وأصحاب المؤسسات الصناعية والمراكز السياحية، وفي المقابل هناك من يتحمل التكاليف الناجمة عن مشاركة النازحين في المجتمعات المضيفة حيث تقع الأعباء على عاتق الفقراء، نتيجة المنافسة بين اللاجئين من جميع مستويات المهارة والعاملين المحليين من ذوي المهارات المتدنية في القطاع غير النظامي، "ومن المحتمل أن تزيد هذه القيود من الآثار السلبية على الفئات الضعيفة اقتصادياً"، ما يؤدي الى التنافس على موارد العيش ونشوء التوترات والصراعات الداخلية..

         لقد شكّلت اليد العاملة السورية عمالة منخفضة الأجر استفاد منها أصحاب المؤسسات والمراكز التجارية، مما أدى الى خفض الاكلاف، وبالمقابل بزيادة أرباحهم  في قطاعَي البناء والزراعة، وهما القطاعان اللذان يؤمنان عمل لأكبر عدد من النازحين.. ففي قطاع البناء مثلاً ترتفع اعداد النازحين، ومعظمهم من العمال المياومين، بينما يلاحظ بالمقابل أن معظم أصحاب المهارات العالية، مثل المدراء والمهندسين المدنيين هم من اللبنانيين، كذلك الحال بالنسبة الى قطاع الزراعة..

 اعادة النظر في السياسات والانتهاكات القائمة

       وعلى الرغم من قلة البيانات المتوفرة حول تأثير النازحين على التوظيف والأجور في لبنان، فقد أظهرت النتائج العامة أن التأثير الاقتصادي السلبي لتزايد أعداد النازحين، تتحمله الفئات الفقيرة من العمال اللبنانيين من ذوي المهارات المنخفضة في قطاعي الزراعة والبناء، وهي الأكثر تضرراً من وجود النازحين،  كنتيجة للمنافسة في أسواق العمل، حيث ترتفع نسبة البطالة وينتشر الفقر بين اللبنانيين.

        وهذا يستوجب اعتماد سياسات  فعّالة لتقييم تأثير تدفق النازحين، حيث يوجد تفاوت كبير وتباين في مستويات المعيشة بين المناطق الجغرافية  التي استقبلت النازحين السوريين، وتبرز الآثار السلبية في كافة مناطق البقاع مع تزايد حجم النازحين في الأراضي الأقرب الى ممرات العبور عبر الحدود البرية مع سوريا، وبخاصة على امتداد حوض الليطاني الذي يمثل نحو 20 في المائة من مساحة لبنان، وحوض العاصي في الشمال، وكذلك في ضواحي المدن الفقيرة والمكتظة بالسكان مثل طرابلس وصيدا والأحياء الفقيرة في ضواحي بيروت..

     مما يتطلب من الجهات المانحة الدولية، وجماعات الإغاثة، والجمعيات التي تتولى توزيع المساعدات في لبنان، إلى النظر عن كثب في تقييم الحقائق الميدانية على الارض، لصالح الجميع في بلد مضطرب للغاية، فهو يعيش أشد الأزمات خطورة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع تزايد عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يتطلب تسهيل خطة عودة النازحين السوريين من لبنان الى سوريا، وذلك تتويجاً لسنوات من الضغط السلبي على كافة الموارد الطبيعية والاقتصادية  في لبنان، البلد الذي وصل إلى نقطة الانهيار، فهو لا يستطيع استيعاب المزيد من النازحين، كما أنه يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم مقارنة بعدد السكان، وكذلك بالنسبة الى مساحة الأرض.

    

الفجوات الحالية في الموقف الدولي

    كل هذا يستوجب اليوم، وبعد مضي اكثر من 12 سنة على استضافة النازحين، اعادة النظر في السياسات المتبعة، وتعديل الاجراءات التي تعتمدها المفوضية العليا للاجئين بالنسبة لعرقلة خطة العودة وتشجيع النازحين على البقاء في لبنان، من خلال الدفع النقدي والانمائي، ولا سيّما توفير الدعم وتأمين الحماية للنازحين على حساب اللبنانيين..

      مخيّم للنازحين السوريين في منطقة حوض الليطاني في البقاع

وكذلك لجهة حصول لبنان على المزيد من الأموال من خلال زيادة المساعدات الدولية  لتنظيم اقامة النازحين المنتشرين في العشوائيات وكافة المدن والأراضي اللبنانية، واعطاء الأولوية لاعادة تطوير البنية التحتية المنهارة لجهة النقص الكبير في المياه، وتدهور شبكات الصرف الصحي، ما ادى الى انتشار التلوّث والأمراض، وبخاصة في أحواض الأنهار وعلى امتداد الآراضي القريبة من الحدود مع سوريا، ثم توجيه الدعم الأساسي نحو المجتمعات المضيفة للنازحين، وهي تضم الأسر الأكثر فقراً، والأكثر تضرراً بالنسبة للمشاركة في سبل العيش، والأكثر حاجة بالنسبة للحماية الفعلية لتأمين الرعاية الصحية والمدارس وتأمين الكهرباء ، وحتى لا تتحوّل سياسة حماية النازحين ومنعهم من العودة من خلال الاغراءات التي تًقدم لهم، الى تشكيل بيئة معادية بشكل متزايد للاجئين،  وذلك نتيجة السياسة التي ينفذها المجتمع الدولي في لبنان اليوم، ما يؤدي الى حدوث نتائج عكسية، نتيجة الصدامات والتوترات في أسواق العمل والبيئة المضيفة، ينجم عنها تنفيذ سياسة دمج النازحين في كافة المجالات، ثم ترحيل العمال الأصليين وتهجير اللبنانيين في البحر.. ودفعهم مع السوريين والفلسطينيين، للقيام  برحلات خطيرة في "قوارب الموت" عبر البحر المتوسط، ما أدى الى غرق ووفاة المئات منهم، وهم في محاولات يائسة للوصول إلى بلدان أوروبا التي تكتفي بمحاصرة اللاجئين في الدول الصغيرة من خلال دمجهم في المجتمعات المحلية، كما يحصل بالنسبة للاوضاع السيئة والصعبة للاجئين السوريين في لبنان، ثم تقديم الوعود بالمساعدات من الدول المانحة، وتوجيه الانذارات بين الحين والآخر، وترفض المشاركة في تحمل المسؤولية من خلال استقبال اللاجئين، وتفضل تقديم المساعدات الضئيلة لإبعادهم عن حدودها، بسبب سياساتها المناهضة للاجئين والمهاجرين، وبشكل مخالف للقوانين الدولية التي ترعى حقوق اللاجئين، وبخاصة بالنسبة للميثاق العالمي للأمم المتحدة  بشان اللاجئين لعام 2018..

 

حول الأهداف المرسومة لمستقبل لبنان

    وعلى الرغم من الوعود المتكررة في المؤتمرات الدولية لدعم سوريا وفرض حقوق اللاجئين، والتي لم يتم الالتزام بها، مع مواصلة الدول الأكبر والأكثر ثراء التخلي عن مسؤولياتها في استقبال المزيد من اللاجئين.  يتواصل ضغط المجتمع الدولي طيلة السنوات الماضية،  لمحاصرة لبنان ومنع اعادة النازحين السوريين او المشاركة في اعادة توطينهم في بلد ثالث، كما تنص القوانين الدولية، وذلك في غياب السلطة العاجزة عن حماية السيادة الوطنية، نتيجة الانقسامات السياسية والصراع على الحصص والفراغ في الحكم.

  اما المساعدات الضئيلة  الداعمة لبقائهم في لبنان واطالة فترة اللجوء،  فهي بمثابة شريان الحياة المساعد في البقاء والصمود، لكنها وحدها غير كافية لتحقيق الاندماج الكامل، فهي تهدف إلى تلبية الاحتياجات قصيرة الأجل، بينما هي بالغة الخطورة في بلد متعدد الطوائف، كونها تعمل على تعديل النسيج الاجتماعي القائم لجهة الخلل في التوازن وتغيير البنية الديموغرافية في لبنان.

 بناء عليه، ونتيجة تكاثر اعداد النازحين السوريين، والتدفقات العابرة للحدود بطرق غير شرعية، وتزايد اعداد غير المجنسين.. تتجه الأنظار للتحولات الديموغرافية الكبيرة في السنوات القليلة القادمة، حيث ما زلنا بحاجة إلى فهم أكثر دقة لكشف الاهداف المرسومة لهذا التغيير الديموغرافي الواسع، من خلال سياسة الدمج القائمة للنازحين واللاجئين في كافة المجالات على الاراضي اللبنانية، وبرعاية أممية تنفذها بلدان الاتحاد الاوروبي وبدعم أميركي، مما ادى الى تحويل لبنان الى بلد لاجئين نتيجة التغييرات العميقة في التركيب السكاني واعادة تكوين المجتمع اللبناني.

 



[1]  مسح أجراه المركز اللبناني للدراسات (LCPSحول "تحوّل النازحين السوريين من مجرّد عبء إلى مساهمين فاعلين في الاقتصاد المحلي في لبنان"، في حزيران 2021، اعداد دانيال كاروت سانشيز...... حيث غطّى المسح الميداني 1.556 أسرة  و 7.208 فرداً  (شمل 4.368 سوريا و 2.882 لبنانيا) ليكونوا عيّنة تمثيلية لسكان ثلاث بلديات لبنانية، استقبلت عدداً كبيراً من النازحين السوريين منذ عام 2011، وهي صيدا وزحلة وحلبا..

 

[2]  مرجع سابق.. صفحة  10.


Friday, July 28, 2023

 

 دور الوسط الإنساني في إعمار بيروت

 تأليف الدكتور علي فاعور أستاذ جغرافية المدن في الجامعة اللبنانية

دراسة نشرت في جزيدة النهار كانون الثاني عام 1994، ومنشورة في كتاب "آفاق التحضّر العربي"، دار النهضة العربية صفحة 521-537، عام 2004.



مقـدمـة

بعد سنوات الحرب الطويلة يتجه لبنان اليوم نحو مرحلة جديدة تستوجب التخطيط لإعادة الإعمار ومحو آثار الحرب، وبعد استعادة الدولة للمرافق الحيوية والمؤسسات العامة، تتجه الأنظار الآن نحو تحسين مستوى المعيشة وتدعيم الوضع الاقتصادي ثم توفير الخدمات الاجتماعية للسكان.

وإذا كانت الحرب قد كبدت لبنان خسائر فادحة تمثلت بالدمار الذي أصاب البنية التحتية والمصانع والمدارس والمستشفيات والمساكن والأبنية الحكومية، تضاف إليها خسارة الموارد المالية والبشرية وهجرة الشباب إلى الخارج مما أدى  إلى  انخفاض الدخل  الفردي  وانتشار البطالة .

أمام هذا كله تبدو المعالجات ضرورية وهي تتطلب برنامج إعماري إنمائي لتحقيق النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل وتأمين الخدمات الاجتماعية، وهذا ما يتم التحضير له عبر خطة النهوض الاقتصادي أو برنامج العام 2000. وما يجب الاعتراف به أن المعالجات والخطط المرسومة ومهما كانت فعاليتها فهي لن تؤمن الحلول السحرية السريعة التي ينتظرها الناس وذلك بالمقارنة مع ارتفاع أكلاف المعيشة، وتراكم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وأبرزها تهجير حوالي 900 ألف ساكن ينتظرون العودة إلى بيوتهم.

لقد بدأت الأحداث في بيروت واستمرت متواصلة طيلة ستة عشر عاماً، أدت إلى تدمير وسط المدينة وتفتيت النواة المركزية فيها، ثم تقسيمها وتهجير سكانها. وهي تبدو اليوم مدينة "مجوّفة" تعيش في فراغ لأنها موزعة في مدينتين تتوسطهما مراكز إدارية وتجارية متعددة، تبدو كنوى ثانوية تتحرك حول نفسها لأنها تفتقر إلى " النواة النووية" المتواجدة في المركز.

ويستحيل اليوم أن تستعيد العاصمة دورها وموقعها وتؤدي وظائفها قبل إعادة الحياة إلى وسطها، لأنه بالفعل قلب المدينة، كما لا يمكن لهذا الوسط أن يستمر ملجأ ومأوى للمهجرين الفقراء الذين حولوا الأبنية إلى أكواخ حقيقية. وهذا يؤكد أن إعادة المهجرين مسألة مرتبطة بالخطة الموضوعة للإعمار والإنماء والتي يجب أن تنطلق من وسط العاصمة في برنامج متكامل يربط بين المدينة وإقليمها وريفها.

ويتضمن هذا البحث النقاط الآتية:

1 - إعمار بيروت أمام عنصر الإدارة والتاريخ

2 - لماذا إعمار الوسط التجاري؟

3 - الوسط الاجتماعي في المدينة.

- توفير الحياة في وسط المدينة.

- أهمية التوافق الاجتماعي.

4 - لا مدينة دون نواة قادرة على التوحيد.

5 - دور وسط المدينة التجارة والسياحة.

6 - ماذا نبني في الوسط ؟

 

1 - إعمار بيروت أمام عنصر الإرادة والتاريخ :

يقال الكثير اليوم عن بناء وسط المدينة التي دمرتها الحرب، ويتفاوت الكلام بين موقع وآخر، بل لكل واحد طريقته وأهدافه المرسومة في تناول هذا الموضوع، ولأننا نقف الآن أمام "ولادة المدينة" بأشكال جديدة وتطورها في مرحلة تاريخية حاسمة، ولأن وسط المدينة هو وجهها الحقيقي وهو مكان التقاء الجميع فقد بات لزاماً على الجميع التعامل بموضوعية وتجرد.

وبعيداً عن موضوع الربح والخسارة فإن إعمار المدينة هو الهدف الأساسي لعودة الحياة إليها. فقد استمرت بيروت مقسمة بين غربية وشرقية طيلة عقدين من الزمن، وهي لم تتخل عن دورها برغم هذا الواقع لكنها فقدت وظيفتها الأساسية في توحيد اللبنانيين فأفسحت المجال في تنظيم الضواحي على حساب الوسط الذي دمرته الأحداث.

فالمدينة هي في الأساس مخلوق حي وهي كما يقول الجغرافي الشهير بيار لافدان ككل مخلوق حي تولد وتكبر وتموت، إن دراسة مسألة النمو المديني والتطور وأحياناً الزوال أو الموت للمدينة يشكل الأساس اللازم في علوم المدن ذلك أن عوامل تطور المدينة كثيرة متنوعة ومعقدة وجميعها يمكن حصرها في قوتين كبيرتين : الطبيعة والإنسان.

وإذا كانت الطبيعة تحضّر الموقع كما يقول فيدال دي لابلاشن فالإنسان ينظمه ليتمكن من تحقيق رغباته وتأمين حاجاته ويجب أن نميّز في تكوين المدينة بين ثلاثة عناصر وهي: عنصر التكوين (أو الشكل) عنصر التطور وعنصر الزوال.

لقد دُمرت معظم المدن في التاريخ نتيجة حروب ضارية وعلى أيدي "السكان المتمدنين"، وكأن قوة خفية تمثل في "رغبة التدمير" تدفع المهاجرين لمحو الآثار الحضارية لأخصامهم، وذلك للتأكد من الانتصار عليهم وهزيمتهم، هذه الواقعة تمتد من مدينة جرش إلى بنوم بنه، ومن طروادة حتى هيروشيما، وذلك دون أن ننسى المدن التي دمرت في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.

مدن دمرت ثم عادت إلى الحياة لتتابع دورها مما يؤكد أن تطور المدن يعتمد أيضاً على التاريخ، وفي تاريخ المدن دور للإرادة الإنسانية وهذه حالة بيروت كمدينة ذاتية النشأة Spontanée ، واجهت قدرها عبر مراحل تاريخية حاسمة، وكانت أبداً مدينة مميزة وحالة فريدة في مواجهة النكبات التي عرفتها فمنذ حوالي 2000 سنة وبالتحديد عام 143 ق.م. أُحرقت بيروت وتم تهديم مبانيها وتحولت إلى خراب فخلت من سكانها الذين تهجروا عنها وسكنوا بمحاذاة البحر، كما أُصيبت المدينة بهزات أرضية عنيفة خصوصاً بين عامي 551 و 555 م. فتهدمت مبانيها وتحولت إلى خراب.

كما عرفت المدينة الكثير من الويلات أيام البيزنطيين والصليبيين، وعانى سكانها من وباء الطاعون عام 1797، كما صمدت المدينة بوجه الهجمات الحربية فتعرضت للدمار والخراب عشرات المرات، وفي حقب متفاوتة لكنها صمدت واستمرت تقاوم بل إنها بفعل الإرادة كانت تزداد قوة كلما ازدادت عليها النكبات.

وإذا كان موضوع الحتمية الجغرافية determinisme géographique قد أثير مراراً في دراسة مستقبل المدن وتاريخها، كما كثر الحديث في بعض المراحل عن مسألة القضاء والقدر Predestination . وإذا كان فهم الماضي واستنطاقه يتم بواسطة بعض الأمثلة والنماذج التاريخية المختارة، فإن حالة بيروت تؤكد عامل الإرادة في بقاء المدينة ودور الإنسان في نموها أو زوالها.

ومن ينظر في خريطة بيروت يرى أنها نشأت كمدينة بحرية وفي موضع طبيعي يبرز كنتوء جبلي Promontoire ، يمتد في البحر ويسمى رأس بيروت وهو عبارة عن رصيف بحري Plate forme مثلث الشكل تبلغ مساحته حوالي 60 كلم2 ويجاور هذا الموضع من الشمال خليج بحري واسع يحتل مرفأ بيروت قسمه الجنوبي المحاذي للساحل، وهو ميناء مثلث الشكل تصل أعمق نقطة فيه إلى حوالي 17 متراً ويحميه من الغرب حاجز ضخري عمقه نحو 1297 متراً، أما بالنسبة لمستوى السطح في المدينة فيظهر أن أكثر المناطق ارتفاعاً إلى حوالي 100 متراً وتقع في تلتي الأشرفية والرملة البيضاء وإلى حوالي 80 متراً في تلة رأس بيروت.

أما وسط المدينة فهو يمتد في شمالي هذا الموضع، كمنطقة متدرجة منفتحة على البحر وهي التي مثلت النواة الأولى في مركز المدينة ونموها حتى عام 1875م. هذا التحديد يبرز أهمية الموقع الجغرافي في ولادة بيروت لكن تتابع الأحداث يؤكد دور الإنسان عبر الأزمات التي واجهتها المدينة، وهي اليوم تتهيأ لولوج مرحلة جديدة حيث يتم التحضير والتخطيط لإعادة بناء الوسط المديني لتستعيد بيروت دورها وموقعها.

نستخلص أن مستقبل المدينة يتوقف على طريقة تعامل الإنسان مع المجال الجغرافي، فالطبيعة، حيث مكان نشوء المدينة، تبدو كآلة موسيقى، يتعامل معها الإنسان على طريقته وهواه، وهو قد يحصل أحياناً على موسيقى متناسقة بشدة harmonieuse، وأحياناً أخرى متنافرة discordance، وهذه حالة المدن أو وسط المدن المخلوقة villes crées حيث يعج بعضها بالحياة والحركة، بينما يبدو البعض الآخر كصحراء مملة، أو كسجن للنفس، يتحين الناس الفرصة للخروج منه في المناسبات.

إن السنوات المقبلة ستحدد مستقبل بيروت وهو يرسم اليوم في وسط المدينة من خلال المخطط التوجيهي للمنطقة التجارية المركزية، والذي يتم تحضيره للمرحلة القادمة.

 

2 لماذا إعمار الوسط التجاري؟

        في إطار التخطيط لإعادة الإعمار ومحو آثار الحرب، يحتل الوسط التجاري لمدينة بيروت اليوم مركز الصدارة بين المشروعات التي تتطلب الاهتمام والمتابعة. وإذا كان "التاريخ ما زال يكتب في قلب المدن" وهي حقيقة ثابتة في نشوء المدن وتطورها، فإن مرحلة جديدة تبدأ الآن في حياة مدينة بيروت التي دمرتها الحرب، مما يستوجب إعادة إعمار وسط المدينة لتعود الحياة إليها وتستعيد وظائفها الاقتصادية والاجتماعية كمركز للتعامل ومكان التقاء بين اللبنانيين.

        هكذا فإن دراسة منطقة الأعمال المركزية، المعروفة باسم الوسط التجاري، تعتبر مسألة أساسية في خطة الإعمار، وذلك للأسباب الآتية:

        1 يحتل الوسط التجاري من حيث موقعه قلب العاصمة، وهو يمثل بالنسبة لإطار المدينة "النواة النووية" ومركز الثقل الرئيسي فيها، ومن ثم فهو ذلك الجزء الذي تتمركز فيه مختلف الأنشطة والخدمات.

        2 يعتبر الوسط التجاري المنطقة التي تعرضت أكثر من غيرها لأعمال التهديم والدمار، وقد أدى تدميره إلى فقدان العاصمة دورها العالمي والكثير من وظائفها نتيجة تفتت المنطقة التجارية المركزية.

        3 يمثل وسط المدينة على الصعيد الاجتماعي مركز الالتقاء بين اللبنانيين الذين فرقتهم الحرب، وهو أيضاً مكان التبادل والتواصل بين الناس من مختلف المناطق، مما يؤكد أن إعمار الوسط التجاري هو الخطوة الأولى لإلغاء الانقطاع الحاصل نتيجة تعطيل المركز، وتأكيد لإعادة توحيد العاصمة بيروت.

        4 إن إعمار وسط العاصمة هو تمسك بالتاريخ الحضاري للمدينة، وذلك في الحفاظ على المعالم الأثرية فيها وإبرازها لتكون سجلاً يؤكد أن التاريخ ما زال يكتب في قلب المدن.

- إن إعمار الوسط التجاري يجب أن يترافق مع خطة واضحة الأبعاد لإعمار الأحياء المتضررة في بيروت الكبرى، بحيث أن التصميم والنظام التوجيهي العام للوسط، لا يمكن أن ينفصل عن النظام التوجيهي الشامل لمدينة بيروت الكبرى، وذلك للترابط في العلاقات بين الوسط ومحيطه. ويستدل من التصاميم الموضوعة لإعمار الوسط والدراسات المرفقة أن المخطط التوجيهي لهذه المنطقة ليس منفصلاً عن النظام التوجيهي الشامل الذي وضع في العام 1986، والذي رسم الخطوط الرئيسية لتخطيط بيروت الكبرى الممتدة من نهر الكلب حتى نهر الدامور، وحتى ارتفاع 400م شرقاً. وقد حدّد هذا التصميم، إضافة إلى الوسط التجاري أربعة مراكز جديدة للنشاط الاقتصادي، وهي: نهر الموت، الحازمية، الضاحية الجنوبية، وخلدة. تضاف إليها مراكز تجارية ثانوية موزعة في الأحياء المحيطة بالوسط التجاري.

5 إن إعمار وسط المدينة ومركز الأعمال الرئيسي فيها يجب أن يترافق مع خطة شاملة متكاملة، وبرنامج إعماري إنمائي متوازن، وذلك تحقيقاً لمبدأ الرغبة في المساواة المكانية، وهي بمثابة تعبير عن العدالة الاجتماعية بعد سنوات الحرب الطويلة في لبنان، ذلك أن الحساسية التي تولدت ونمت حول مسألة المساواة والعدالة، انتقلت من الاجتماعي إلى المكاني مع بروز حدة التفاوت بين الفئات الاجتماعية والغاية هي تحقيق التوازن الأفضل بين المناطق المكوّنة للأراضي وبين المدن والأرياف.

ومن الضروري الإشارة إلى وجود اتجاه يعارض "هيمنة المدينة"، وهو يعمل للتخفيف من امتيازاتها وذلك في محاولة لخلق تنظيم آخر للأراضي معارض للمكان المديني ولا يخضع أبداً لازدواجية المركز والأطراف، بل بالتنسيق والتعاون بين الأماكن المدينية والأقاليم. ويعزز هذا الاتجاه الاختلال البارز في التوزيعات المكانية للسكان حيث تتواصل موجات النزوح الريفي نحو العاصمة التي تضم وحدها اليوم، حوالي نصف سكان لبنان يعيشون في رقعة ضيقة من الأرض تقل مساحتها عن واحد في الماية من مساحة لبنان.

 

3 الوسط الاجتماعي في المدينة:

        تبحث هذه الدراسة في محاولة تحديد موقع الوسط الاجتماعي في المدينة من خلال رؤية شاملة تنظر في مختلف الاتجاهات، وترتكز إلى الوسائل التي توفرها مختلف الاختصاصات، من علم الاجتماع إلى الجغرافيا والتاريخ والآثار وعلم الاقتصاد وعلم النفس...

        وذلك بهدف التنسيق بين مختلف المجالات وإيجاد الترابط في العلاقات المكانية القائمة في الوسط، ذلك أن المدينة هي في الأساس مكوّنة من أفكار أكثر منها أحجار أو باطون، كما أن المشاهد البارزة في مورفولوجية المدينة هي حصيلة التقاء عدة عناصر متعددة الزوايا ومختلفة الأبعاد، مكوّنة ومؤثرة في المكان.

        - توفير الحياة في وسط المدينة: كذلك فإن بناء الأفكار والأحجار لا يمكن أن تصنع وحدها مدينة حيّة، إن غالبية المخططات تهمل المشاعر والأحاسيس عند الناس، فتبدو المدينة جامدة دون حياة، ذلك أن قساوة الزوايا القائمة في الأبراج العالية، والواجهات اللزجاجية الباردة، ثم الألوان الفقيرة في المخازن واللمجسمات والأبنية، تكاد لا تضاهي بهجة الشوارع الضيقة الملتوية في الأسواق القديمة المسقوفة، ولا تعوّض سحر الواجهات الخشبية الدافئة التي تلهم المخيلة وتجذب السواح في أزقة المدن العتيقة، حيث تمتليء المدينة بالحيوية وتعج بالحرجة. إن ما يهم زائر المدينة ليست الأشكال الهندسية ولا المشاهد المدينية المنظمة بل الإيحاءات التي تصدر عنها وتثيرها لديه، ثم الآثار الناجمة عنها والتي تبقى في ذاكرته.

        إن الإنسان يتعامل مع المدينة بحواسه وأحلامه، وهو في الأساس يعيش فيها كشاعر.. فالموضوعية المورفولوجية تهم الاختصاصيين وحدهم (علماء التاريخ والآثار...) لكن إضافة علامة مميّزة في الشارع أو الساحة، ربما تلفت انتباه الناس وتشعرهم بوجودهم، بل إن المشاهد المدينية الغنية بهذه العلامات الثقافية أو النفسية هي التي تزيد من ارتباط الإنسان بالمدينة، وتساعد في رسم مستقبلها.

        - أهمية التوافق الاجتماعي: إن الآلة المدينية الضخمة، وبرغم تزايد عدد سكانها واحتكارها الوسائل التكنولوجية المتطورة، تظهر في النهاية وكأنها معرضة للزوال وسريعة العطب، وعملها يتوقف على تنظيم دورة الحياة اليومية فيها، بل إن قوتها تتأمن من خلال توفير الطاقة وتأمين التموين والتوافق الاجتماعي.

        إن التوافق الاجتماعي يجب أن يتأمن في المدينة، وهو يمثل صمام الأمان لضمان استقرار الحياة المدينية، وهذا يستوجب توفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية وتأمين فرص العمل، ومحاربة الفقر، وهي الشروط التي تضمن مستقبل المدينة وتؤمن الحماية لها لتفادي الأزمات الاجتماعية، لقد أنهى ماكنماره تقريره للبنك الدولي عام 1975 بهذه العبارة "إذا لم تواجه المدن وبدون تأخير، وبطريقة بناءة مسألة الفقر، فإن هذه الأخيرة سوف تلغيها".

        إن المنحى الاجتماعي في دراسات المدن يدفعنا لاعتماد التخطيط الموضوعي في مسألة الإعمار، مما يستوجب العناية بالوسط الإنساني لتحصين الخطة، وتوفير كافة مقومات النجاح لبرنامج إعادة إعمار الوسط المديني في بيروت، ذلك أن التفاوت البارز في معظم المدن بين الترف والإنفاق والاستهلاك الزائد من جهة، والبؤس وإنتشار الفقر بين الأغلية من جهة أخرى، ظاهرة غير مقبولة وغير محتملة في حال توسعها، وهي تشكل دافعاً ومحرضاً على العصيان والثورة.

 

4 لا مدينة دون نواة قادرة على التوحيد:

        هكذا تبرز أهمية إعمار وسط المدينة، وإذا كانت الدراسة تستوجب البحث في مختلف الزوايا، فالأولوية تبقى للتركيز على أهمية المجال الاجتماعي المتمثل بوجود الإنسان في المدينة.

        أليست دراسة المدينة هي معرفة كيف يجتمع الناس في الوسط الإنساني، وكيف يتعاملون؟ وما هي حدود البيئة الاجتماعية والمحددات التي تفرض نفسها في تركيب الوسط المديني؟

        ذلك أن دور المدينة يتغير ظاهرياً مع تطور المجتمعات، لكنه يتمثل حتى الآن في تجمع وسطي يمتد بين الأفراد والجماعات المحلية من جهة والبيئة الخارجية من جهة أخرى، والمدينة الحالية ذات أبعاد مختلفة جداً بالنسبة للسكان والمساحة، إذ يمكن أن تتجمع حولها أحياء واسعة، فتتحول إلى تجمع مديني ضخم كما هي الحال في بيروت، ولكن مهما اتسعت مساحة الضواحي المحيطة فلا يمكن أن توحد مدينة سوى بوجود نواة قادرة على التوحيد والسيطرة، نواة منظمة لتؤدي دورها في التنسيق والجميع بين الأطراف.

        وهذا يقودنا إلى محاولة تعريف المدينة كمجال مشترك مفتوح أمام الجميع للالتقاء والتعايش، بل وأيضاً ميدان للصراع والتنافس الاقتصادي والاجتماعي، وهي تمثل نواة حية ومركز جذب في مواجهة المراكز والتجمعات المدينية والريفية.

        كذلك فإن المدينة طريقة معينة لاستخدام الأرض، بل إنها تبدو من حيث النشأة والتكوين كإسقاط في مكان محدّد للشروط الطبيعية والبشرية والمحددات التاريخية، وهي مركز تلاقي القوى الاقتصادية والسياسية حيث تتجلى وسائل التقدم التكنولوجي والعبقرية الخلاقة والمبدعة للمهندسين في ابتكاراتهم، تضاف إليها تجارب وعادات السكان في تعاملهم مع الوسط المديني.

 

5 دور وسط المدينة التجارة والسياحة:

        إن ما يهم الإنسان في وسط المدينة هو المجال الذي يؤمن له الراحة في التنقل والعمل والسكن والتسوّق، والالتقاء بالآخرين، وهذا يتطلب وجود توازن في تركيب المدينة وذلك من خلال الانسجام والترابط بين المساحات الحرة والمساحات المبنية، بل إن نجاح مخطط إعمار الوسط المديني يرتكز إلى طريقة استخدام الأرض، ثم تطوير العنصر المحرّك في البنية، بحيث يؤمن المخطط مساحات خضراء كافية لتوازن البيئة بالإضافة إلى مساحات حرة عامة وخاصة، تشمل الشوارع والساحات والحدائق للتنزه والراحة.

          وهكذا فإن وضع التصميم والنظام التوجيهي العام في وسط المدينة قد ارتكز إلى تحديد الوظائف ومراعاة توزيع الأنشطة المختلفة وذلك كما يأتي:

 

        - بالنسبة للوظيفة التجارية: أن يستعيد الوسط دوره في الحركة التجارية، خصوصاً وأن التجارة تعتبر من أهم الوظائف التي تجذب السكان والمؤسسات، وسوف يستوعب الوسط مؤسسات بيع الجملة والمخازن الفردية، والمؤسسات المالية كالبنوك ومحلات الصيرفة والتأمين.

        وبهدف إيجاد الترابط بين هذه الأنشطة فقد تم في وضع المخطط التوجيهي مراعاة التنوّع والتوزيع المكاني لمراكز الأعمال التجارية والمصرفية، والاستيراد والتصدير، وبموازاة المخازن التجارية الكبرى والحديثة، سوف يعاد بناء الأسواق القديمة، مع الحفاظ على بنيتها وشوارعها الضيقة، وطابعها العمراني المميّز، كأماكن للتسوّق والتسلية للزوار والسائحين. وقد ميّز التصميم في الأسواق بين مجموعتيْن:

- الأولى وتتألف من أسواق: الطويلة، أياس، الجميّل.. وهي تتوزع متجاورة، وسوف يتم إعادة إعمارها في مكانها وفق الأشكال التي كانت عليها، مع مراعاة المتطلبات العصرية للخدمات.

- الثانية وتتألف من أسواق: النورية، سرسق، الصاغة، أبو النصر.. وقد لحظ التصميم إدخال بعض التعديلات عليها لإضفاء الطابع الشعبي، وتشجيع عودة تجار الأسواق إلى الوسط.

        وهذا يؤكد على التوزيع الوظيفي الهرمي للأعمال التجارية، مع مراعاة طرق وعادات التسوّق المتمثلة بتردد الزبائن لشراء حاجاتهم من المؤسسات وذلك بطريقة قد تكون يومية أو أسبوعية أو شهرية.

        كما شملت الدراسات احتمالات استخدام السيارة لأعمال التسوّق حيث تم تخطيط مواقف في المراكز التجارية وتجهيزها لتفادي مشكلات السير والأزمات الناجمة عنها. وقد أدخل التصميم تعديلات هامة في شبكة المواصلات لجهة تنمية وسائل النقل وتنظيم ثلاثة محاور جديدة هي: محور البرج، محور المعرض، ومحور السرايا القديمة، أما محور البرج فقد تم فتحه على البحر لربط منطقة الأعمال المقترح إنشاؤها مكان الحوض الأول بساحة الشهداء، كما تم ربط محور المعرض بالبحر، أما محور السرايا فالغاية منه إيجاد واجهة بحرية لمنطقة السرايا وربطها بالحديقة العامة التي ستنشأ في مكان مكب النورماندي على البحر. وهكذا تسهّل هذه المحاور الحركة الداخلية وتربط بين مختلف أقسام الخط الدائري في الوسط، وذلك لتفادي أزمة الاختناق التي تتعرض لها معظم المدن خصوصاً في وسطها، وتؤمن حركة الدخول والخروج باتجاه البحر ومع المحيط المجاور.

       

- بالنسبة للوظيفة السياحية:

        يمثل وسط العاصمة مكان التقاء الوافدين إليها وهو أيضاً مكان اجتماع مختلف الأنشطة الاقتصادية والثقافية، كما أنه المساحة التي تبرز وجه المدينة ونافذتها على العالم، ففي الوسط نقرأ تاريخ المدينة. ومن الضروري أن يكون للوسط دوره السياحي وذلك من خلال إعادة بناء الفنادق والمطاعم واسترجاع مؤسسات اللهو والتسلية ودور السينما والملاهي، ويتبيّن أن التصميم الموضوع قد حافظ على بعض المباني القديمة في الوسط وذلك لأهميتها التاريخية والتراثية والمعمارية (بلغ عدد المباني المحافظ عليها 192 بناء)، بالإضافة إلى الكنائس والمساجد وكذلك الأبنية الحكومية ذات الطراز المعماري كالبرلمان ومبنى البلدية ومبنى وزارة الاتصالات والبريد، إضافة إلى مبنى السراي الكبير ومبنى العادلية (سابقاً) كما حافظ المخطط على الأبنية المتواجدة في أحياء المعرض، اللنبي، فوش، وشارع المصارف .. وهي تشكل نحو ربع المساحة الإجمالية لوسط بيروت.

        كذلك حافظ المخطط على بعض الأبنية المتفرقة مثل مبنى التياترو الكبير ومبنى ستاركو وفندق الهيلتون وبرج المر، وقد تم مثلاً استثناء التياترو الكبير من الهدم ليكون مسرحاً وطنياً في قلب العاصمة تجهزه الدولة وتضعه في تصرف المسرحيين اللبنانيين، وذلك بهدف إعادة بعث الحياة في وسط المدينة كمركز ثقافي وإعلامي على اعتبار أن العاصمة تمثل منارة فكرية وثقافية في العالم العربي والشرق الأوسط.

       

والبارز أيضاً أن المخطط الجديد قد ترك في منطقة الوسط مساحات حرة كافية للساحات العامة والشوارع وممرات للمشاة وذلك للتخفيف من الاكتظاظ السكاني، كما سيتم إنشاء حديقة عامة للالتقاء والتنزه بمساحة 60 ألف م2، بعد إلغاء مكتب النورماندي الذي يشوه منظر العاصمة على البحر، وتغطي مساحته 150 ألف م2 تقريباً.

 

6- ماذا نبني في الوسط ؟

        يبقى أن التنظيم الداخلي للوسط لا يمكن قراءته بشكل كامل بواسطة التصميم أو النظام التوجيهي العام، لأن التنظيم الذي يوزع المساحة بين أماكن مبنية وأخرى حرة لا يتضمن بشكل تفصيلي على كيفية استعلامات المباني أو المساحات الحرة والتي يجب أن ترفق بشروحات مفصلة لمحتويات الساحات والحدائق ووضع النصب والتماثيل وتصميم برك المياه وتوزيع المقاعد للمتنزهين، واختيار أماكن المقاهي واللهو لأنها ستصبح مراكز تجمع للناس في وسط المدينة.

        كلها علامات مرئية ومحسوسة ومخيفة أحياناً تتجسد من خلال التمازج في تنظيم وتوزيع الأشكال والمساحات في المجال المديني. إن ابن المدينة يميل إلى الابتعاد والهروب عن مدينته كلما سنحت له الفرصة، خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع وخلال الأعياد، يدفعه إلى ذلك عدم توفر شروط الحياة اللازمة في التجمع المديني، وهذا لا يرجع لتزايد عدد سكان المدينة أو لتشابك وظائفها أو نموها السرطاني المخيف، بل أنه نتيجة نسيان المدينة لطبيعتها الحقيقية وهدفها، وعدم توفر العناصر المحركة للوسط الإنساني.

        وفي نهاية الأمر كيف نعيد بناء وسط العاصمة الذي دمرته الحرب ؟ وكيف نعيد الحياة والنشاط إلى المدينة ؟ على ضوء المعلومات التي ذكرناها يتبيّن لنا أن بناء مدينة لا يرتكز فقط إلى تخطيط استعلامات الأرض وتوزيع مراكز التجارة والأبراج والشوارع والساحات، وتصميم المساكن وبناء الجسور وغيرها من المنشآت، بل المطلوب بناء المحيط المديني وتوفير وسائل الاندماج للإنسان الاجتماعي ثم خلق العناصر المحركة للأنشطة الحضرية فالمدينة رغم تخصصها بالأعمال التجارية والمالية والإدارية ليست إلاّ بيتاً ومكاناً للتلاقي الاجتماعي وهي بدون الإنسان تبدو مقفرة فارغة كالصحراء.

        إنّ بناء مدينة وفق قوانين الهندسة المعمارية وحدها لا يكفي، لأن المسألة لا تقتصر على البناء وفن العمارة، بل إن خلق مدينة يستوجب تشكيل فريق متكامل متعدد الاختصاصات والأنظمة، حيث يجب الاستعانة أيضاً بقوانين علم الاجتماع وعلم النفس

والجغرافيا، وحتى الفلسفة والشعر ... وربما ينطبق هذا على وسط العاصمة بيروت، الذي يجتاز اليوم مرحلة تاريخية حاسمة، وحيث تبرز الحاجة لإيجاد أمل في حياة أفضل.

        ويروي كاندليس في مقالة شهيرة بعنوان: "هندسة معمارية أم بناء" ان أوبالينوس، وهو مهندس معماري أثيني كان يتحدث في الهندسة المعماري مع صديق لأفلاطون حيث كانا يتجولان في أثينا ويتناقشان في الناس والشوارع، والهياكل والميادين، والوسط العام، وفي وقت ما توقفا أمام هيكل يوناني صغير، هيكل لأثينا، وقال أوبالينوس المهندس لصديقه، يا صديقي أنت الذي يعرف أشياء كثيرة أنت الذي يرى أشياء كثيرة قل لي ما هو شعورك أمام هذا الهيكل الصغير اليوناني وبدأ يصف بشكل عجيب هيكل النصر بدون أجنحة على الأكروبول وجعل الصديق يمتدح التناسق والمنظر الطبيعي ودقة التزيين. وبعد أن انتهى من الوصف قال أوبالينوس المهندس، نعم إنك تعرف أشياء كثيرة ولكنك لا ترى الشيء الجوهري، إن هذا الهيكل قد صنعته أنا أوبالينوس المهندس، لقد بينته حينما كنت شاباً، وفي ذلك الوقت كنت أحب فتاة، وكانت الوسـيلة الوحيدة للتعبير عن حبي لها هي بناء هذا الهيكل، والهندسـة المعمارية يا صديقي ليسـت إلاّ شـكلاً من أشـكال محبة الناس.