في لبنان.. انتفاضة شعبية فشلت لكنها دخلت التاريخ
إنتفاضة الشباب 17 تشرين أول 2019..
محاولة لرسم خارطة جديدة لإنقاذ لبنان..
د. علي فاعور، 17 تشرين أول 2022.
قبل ثلاث سنوات، في ذكرى الإنتفاضة الشعبية نهاية عام 2019.. ولدت تجربة ديموقراطية حديثة في لبنان.. ففي صبيحة يوم 17 تشرين الأول بدأت مجموعات صغيرة من الشباب تتحرك في وسط العاصمة بيروت، من ساحة الشهداء إلى ساحة رياض الصلح، لكن أحداً من السياسيين لم يكن يتوقع أن تتولد منها موجات ضخمة أخذت تتصاعد لتملء الساحات خلال ساعات معدودة..
وإذا كان من الصعب التنبوء بالزلازل الطبيعية قبل حدوثها، فقد كان يستحيل توقع حدوث الإنتفاضة الشعبية التي لا زالت أثارها بارزة في لبنان، وهي ككل الثورات تبدأ بخطوة ينفذها الفقراء والمحرومين، لكنها كانت غير متوقعة في لبنان، حيث دفعت الإنقسامات الطائفية الناس إلى التشاؤم.. لقد أقفل أمراء الحرب كل الطرق، وسدوا جميع المنافذ، حتى شعر الناس باليأس، وفقدوا الأمل في التغيير، فهاجر الشباب إلى الخارج، وتحول البلد الصغير إلى مزارع ومقاطعات، حيث تم تقسيم الأراضي والحصص بين الطوائف وإنشاء محميات تفصلها خطوط التماس التي رسمتها الحرب الأهلية قبل 40 سنة.
بل لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث، وخلال الخمسة أيام الأولى فقط، إهتزت البنية السياسية القائمة منذ ثلاثة عقود، فقررت السلطة الحاكمة على عجل وخلال ساعات معدودة، التوصل إلى ورقة إصلاحية كانت ترفض تصديقها برغم الضغط الدولي، بحيث أن مضمون هذه الورقة جاء ضعيفاً ويصعب تنفيذه، كونه كتب تحت تأثير الصدمة التي فاجأت الحكومة..
من كان يتوقع ان تحدث "أعجوبة" في لبنان، هذا البلد الغارق في وحول الفساد والهدر منذ قرابة نصف قرن، والذي دمرته النزاعات الطائفية والسياسية بإعتماد سياسة المحاصصة بين الزعماء والمناطق، بحيث إرتفعت نسبة الفقراء الغارقين في ديونهم لتبلغ أكثر من نصف سكان لبنان. هذا البلد الذي يطرد ابناءه من أصحاب الشهادات العليا، والذي يعتمد سياسة المحسوبية والطائفية، بدل الكفاءة والأهلية، في تولي الوظائف وعلى كافة المستويات، مما أدى إلى تزايد موجات هجرة الشباب للبحث عن وطن وعمل في الخارج.
نعم إنهم فقراء يبحثون عن لقمة العيش في "مراكب الموت"، يأكلون جوعهم بعد أن أكل زعماؤهم كل خيرات الدولة.. أداروا ظهورهم عن مطالب الناس الغارقين في الديون والفقر، وصموا آذانهم عن اوجاع المرضى الهائمين عند ابواب المستشفيات، بل لم يكترثوا لتراكم ملفات الفساد للمحاسيب والأزلام الغارقين في أوحال السرقات وهدر المال العام.. لقد تم مصادرة مؤسسات الدولة ووضع اليد على ملفات التوظيف العشوائي التي تراكمت قبل الإنتخابات الأخيرة..
بل لقد تم تصنيف لبنان بين أكثر بؤر الجوع الساخنة في العالم، حيث أصدرت الأمم المتحدة تحذيرا مبكرا في تقرير صدر في أيار 2022، عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، يدعو لاتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 بؤرة جوع ساخنة مهددة بانعدام الأمن الغذائي ومعرضة لخطر الانحدار نحو ظروف كارثية، بينها أيضاً لبنان، حيث يتم توزيع الخبز يومياً للأسر الأشد فقراً ويواجه السكان بالفعل المجاعة والموت..
بينما يحاول البعض تشويه الصورة ومصادرة الحلم الذي يراود الشباب لبناء مستقبلهم.... فقد فشلت كل المحاولات في مرحلة العودة إلى وطن.. حيث تستمر موجات الهجرة المغادرة لبنان والتي باتت تضم خلال ثلاث سنوات نحو 10 في المائة من السكان اللبنانيين (400 ألف مهاجر)، من الأطباء والممرضات والمهندسين واصحاب المهارات، والقضاة وأساتذة الجامعات وغالبيتهم من الشباب من حملة الشهادات العليا.. وأمام أعيننا يتحول الوطن إلى مزارع للطوائف، يحكمها زعماء الحرب الذين تبادلوا الحصص، وتوزعوا الأراضي والموارد.. بينما يستمر نزيف العقول التي تمثل خسائر تُقدر بالمليارات..
وخلال العقود الثلاثة الماضية، كانت تنهب ثروات الدولة وتتكدس المليارات المنهوبة بأيدي الزعماء واتباعهم في محميات الطوائف.. بل وفي مواجهة أكبر أزمة لاجئين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تم تحويل لبنان إلى خزان بشري للنازحين واللاجئين لا مثيل له في التاريخ الحديث، ووضعه تحت وصاية المجتمع الدولي لطلب المساعدات للنازحين وتفادي الإنهيار الإقتصادي، وطوال أكثر من 11 سنة كانت تعقد المؤتمرات الدولية من باريس وبرلين إلى بروكسيل ولندن، وحتى رعاية مؤتمر باريس - سيدر الأخير، ثم العودة الى روما وبروكسيل، ونيويورك، حيث استمر المجتمع الدولي يطالب بدمج النازحين وتوطينهم، بينما تحوّل البحر المتوسط الى مقبرة اللاجئين عند أبواب أوروبا، حيث يواجه لبنان حالة طوارئ غذائية خطيرة جداً..
اليوم، وفي ذكرى مرور ثلاث سنوات على إنتفاضة 17 تشرين، وفي ذروة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان وهو على مشارف الانفجار الاجتماعي، لا زالت الآمال تتركز حول احياء الإنتفاضة الشعبية، فهي قد بدأت بأهداف وطنية لتعبر عن وجع الناس.. إنتفاضة غير مسبوقة، بل محاولة لإنقاذ لبنان، أنجزت الكثير خلال أيام معدودة برغم التدخلات الدولية من جهات سياسية لحرفها عن المطالب المعيشية المحقة، وبرغم تعقيدات الأزمة اللبنانية وتمسك البعض بالحصص والتوازنات القائمة بعد الإنتخابات الأخيرة، والتي تواكب الإتصالات الجارية لتشكيل الحكومة، وتراكم الأخطاء الموجهة بأهداف سياسية لتحقيق مكاسب من أحزاب ونواب وشخصيات، ومحاولات التشويه التي تتعرض لها من قوى سياسية في الداخل وجهات مدعومة من الخارج..
لقد شملت انتفاضة تشرين كافة المناطق والمدن اللبنانية، من عكار إلى صور وبعلبك والهرمل ثم النبطية وصيدا وبيروت وجونية وجبيل وطرابلس، لتعم كافة أقسام الجغرافيا اللبنانية، وهي أيضاً بمثابة الإعصارالناجم عن إستمرار الحراك الشعبي الذي كشف عن مطالب الجياع والفقراء لمحاسبة الفاسدين وإسترجاع المال المنهوب نتيجة السياسات الفاشلة المعتمدة في الحكم، ومنذ 17 تشرين أول 2019 حتى يوم 17 تشرين اول 2022، لا زالت إنتفاضة الشباب حيّة ومستمرة في ذاكرة اللبنانيين، لكنها فشلت بسبب الحواجز الكثيرة التي وضعت أمامها، وحالت دون إستمرارها في طريقها الصحيح لرسم خارطة جديدة لإنقاذ لبنان ومحاربة الفساد، وذلك برغم أنها قد ترافقت مع حركة طلابية شاملة، عابرة للمناطق وعابرة للطوائف...لقد فشلت.. لكنها مثلت الخطوة الأولى في طريق العودة إلى وطن...
د. علي فاعور في 17 تشرين أول 2022.